باغتنا الدكتور تحسين طه أفندي في جلسة العصف الذهني لهذا اليوم الحار , بعبارة (( أكلة الضباب و آكلي اللبن )) , مما أطلق الشرارة لكتابة هذه المقامة الخاصة بجدل اللغة , فلطالما كانت الكوفة والبصرة مدينتين توأمًين في التاريخ الإسلامي , تتنافسان في مسائل كثيرة , من الفقه والأدب إلى السياسة واللغة , وفي هذا السياق من التنافس الفكري والثقافي , برزت مفاضلة لغوية طريفة تعكس الفروقات الجوهرية في نظرة كل مدينة إلى مصادر اللغة وفصاحتها , كان أهل البصرة يفاخرون أهل الكوفة بقولهم : (( نحنُ نأخُذُ اللُّغة عن حرَشة الضِباب وأكَلَةِ اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكَلَة الشّواريز وباعَة الكواميخ )) , هذه المقولة ليست مجرد مزاح , بل تحمل في طياتها دلالات عميقة عن منهج كل مدرسة لغوية ومصادرها.
تُشير مقولة أهل البصرة إلى اعتزازهم الشديد بأخذ اللغة من البادية , من أولئك الذين يعيشون حياة بسيطة قريبة من الفطرة اللغوية , فـ((حرشة الضباب )) و((أكلة اليرابيع )) هي كناية عن الأعراب وسكان الصحراء الذين لم تختلط لغتهم باللكنات الدخيلة أو اللهجات الحضرية , كانوا يُعتبرون المصدر الأصيل والمنبع الصافي للفصاحة العربية , حيث بقيت لغتهم نقية على سجيتها , بعيدة عن تأثيرات التمدن والاختلاط بالأعاجم , لذا , كانت مدرسة البصرة النحوية تميل إلى الاستشهاد بلغة البادية والشواهد الشعرية الفصيحة المستمدة منها , مُعتبرة إياها المعيار الأساسي للصحة اللغوية.
في المقابل , كانت البصرة تَعيب على الكوفة اعتمادها على ما أسموه (( أكلة الشواريز وباعة الكواميخ )) , هذه العبارات تُشير إلى أهل المدن , والتجار , والباعة , ومن يرتادون الأسواق التي تختلط فيها الأجناس واللغات , (( الشّواريز )) قد تُشير إلى أنواع معينة من الأطعمة الشعبية , و(( الكواميخ )) هي الأدهان أو أنواع من الأطعمة المختلطة , وكلاهما يُشير إلى طبيعة الحياة الحضرية التي يكثر فيها الاختلاط والتبادل , في نظر البصريين , هذا الاختلاط يؤدي إلى فساد اللغة , ودخول الألفاظ الأعجمية , وتغير النطق , مما يُبعد اللغة عن فصاحتها الأصلية , كانت مدرسة الكوفة , وإن كانت تستند إلى العربية الفصيحة , إلا أنها كانت أكثر تساهلاً في قبول بعض الاستخدامات اللغوية الدارجة في المدن , وهو ما كان محل نقد من قبل البصريين.
هذا التفاخر اللغوي بين البصرة والكوفة يعكس جدلاً أعمق حول منهج دراسة اللغة , فالبصريون كانوا يميلون إلى منهج أكثر محافظة وأصالة , مُركزين على تنقية اللغة من الشوائب والاعتماد على المصادر الأولى , بينما كان الكوفيون أكثر واقعية , مُدركين أن اللغة تتطور وتتأثر ببيئتها , وأنه لا يمكن تجاهل الاستخدامات اللغوية الشائعة حتى لو كانت بعيدة عن المعيار الأمثل , ولم يكن هذا الجدل مجرد تفاخر, بل كان جزءًا لا يتجزأ من التطور اللغوي في الحضارة الإسلامية , حيث ساهم كل من المنهجين في إثراء الدراسات النحوية والصرفية والبلاغية , ووضع القواعد التي حفظت اللغة العربية وحصّنتها من الاندثار أو التحريف , وفي النهاية , أثبتت كلتا المدينتين دورهما المحوري في صياغة القواعد اللغوية التي نعرفها اليوم .
يُنسب للفرزدق في تفضيل لغة البادية على لغة الحضر , وهو من شعراء العصر الأموي المشهورين , هذه الأبيات التي تُشير إلى تفضيل لغة الصحراء على لغة المدن : (( لُغَةٌ بِها عَرَفَتْ عَرْبٌ عَرُوبَةَ وَما كانَتْ بِهَا لُغَةُ الأَعَاجِمِ تَخْتَلِفْ , أَتَتْكَ مِنْ أَهْلِ الفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَلَمْ تَأْخُذْ مِنَ الأَسْوَاقِ قَوْلَ مُخْتَلِفْ )) , وفي بيان أصالة اللغة العربية لشاعر عربي قديم :(( إِذَا مَا اللُّغَةُ فَسَدَتْ فِي دَارِ عِزٍّ فَفِي الْبَادِيَةِ الْفَصَاحَةُ تَنْتَقِلْ , فَالْبَدْوُ هُمْ أَصْحَابُ اللِّسَانِ وَعِنْدَهُمْ خَالِصُ اللَّفْظِ وَالْجُمَلْ )) , ولِقَائِلٍ : (( اللِّسَانُ تُرْجُمَانُ الْفِكْرِ حَقًّا وَبِهِ يَفْخَرُ الْفَصِيحُ إِذَا قَالْ , فَاحْفَظْ لِسَانَكَ عَنْ لَحْنٍ وَلَغْوٍ فَإِنَّ اللُّغَةَ تُعْلِي مَنْ وَعَاهَا وَنَالْ )) , ومن قصائد تصف البادية وأهلها : (( وَكَمْ مِنْ قَوْلٍ بَدْوِيٍّ صَحِيحٍ أَجَادَ الْقَوْلَ لَا يَبْغِي بَدِيلاَ , وَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ مِنْ أَهْلِ حَضْرٍ تَجِيءُ اللَّفْظَ مَعْكُوسًا ثَقِيلاَ )) , كل هذه الأبيات تُبرز تفضيل اللغة البدوية الصافية على لغة أهل الحضر التي قد تكون (( معكوسة وثقيلة )) , وتُعطي لمحة عن النظرة القديمة لمصادر اللغة والفصاحة , وتُجسد جانبًا من الجدل الذي كان قائمًا بين مدرستي البصرة والكوفة.
لمس ابن جنى هذا الموضوع بقوله : (( وليس أحدٌ من العرب الفصحاء إلا يقول : إنه يحكي كلام أبيه وسلفه , يتوارثونه آخرٌ عن أوّل , وتابع عن مُتّبَعٍ , وليس كذلك أهل الحضر , لأنَّهم يتظاهرون بينهم بأنَّهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربيّة الفصيحة , غير أنّ كلام أهل الحضر مُضاهٍ لكلام فصحاء العرب في حروفهم , وتأليفهم , إلا أنّهم أخلُّوا بأشياءَ من إعراب الكلام الفصيح )) , وعليه يكمن الفرق في ان البصريين ياخذون بالعقل , لا بالنقل , اما اهل الكوفه ياخذون بالنقل , وهم يقبلون في الحديث السماعي المبتذل فيه , اما البصريون فهم يعتمدون على القوانين اللغويه , ولا يقبلون باي حديث يخرج عن نطاق القوانين اللغويه , وحرشة الضباب أي صيادي حيوان الضب , والشواريز أي اللبن الثخين أي (الجميد) والكواميخ أي (الأدم ) ,وعلى ضوء ما فهمت ان اهل البصرة كانو ياخذون اللغة الفصحى السليمة لأنهم من البادية , وكانوا يتعبون في طلب التعمق في النحو , اما اهل الكوفة فقد كانو ياخذونها من الباعة الذين يصلون الى مدينتهم فلا يتعمقون في اللغة العربية الفصحى , وأعتقد ان كلا المدرستين مكملتان لبعضهما البعض فاحدهما وهي مدرسة البصرة واضعة علم النحو , والاخرى وهي الكوفة تطرقت للظواهر اللغوية , ولها دور في النحو العربي .