19 يوليو، 2025 12:56 م

حين تغيب الحقيقة … بين شمس لا تشرق وذاكرة زائفة

حين تغيب الحقيقة … بين شمس لا تشرق وذاكرة زائفة

حين يكون المجاز خلاصًا، والحب يتجاوز المنطق، ويُصرّ الإنسان على أن يصدق ما يشعر به لا ما يعرفه.
الشمس لا تشرق، والقلب، كما يقول العلم، لا يحب. ومع ذلك، نفتح أعيننا كل صباح فنقول: “أشرقت الشمس”، ونضع أيدينا على صدورنا في لحظة حنين، ونهمس: “قلبي اشتاق”.
نعرف أن الشمس لا تشرق، وأنها الأرض التي تدور، وأن القلب آلة تضخ الدم. لكننا نمنح الشمس فعل الشروق، ونمنح القلب سلطان الحب. ليس لأننا نخدع أنفسنا، بل لأننا نختار أن نعيش الحقيقة كما نحسّها، لا كما نعرفها.
نحن لا نحتاج إلى براهين على ما نحسّ، بل نصدق أحيانًا ما نشعر، ولو خالف كل ما تعلمناه.
في لغتنا، الشمس تتحرك، والقلب يشعر، والمجاز لا يُعد كذبًا… بل خلاصًا لغويًا من تعقيد العالم.
حين نقول: “رفعت العريضة للقاضي”، لا نتخيل يدًا ترفع شيئًا نحو السماء، لكننا نفهم المقصود… دون سؤال.
اللغة لا تكذب، بل تختزل. ومن يرفض المجاز، يُحكم على نفسه بالبكم. فحين يعجز العقل عن المجاز، يختنق في ضيق اللغة.
فالمجاز قاربنا لعبور بحر الوجود المتلاطم.
ثم نأتي إلى الحب… ذاك الكائن الذي يتسلل إلينا من خارج المنطق، ويعطّل فينا أدوات التحليل. هو الفوضى الوحيدة التي يتساوى فيها الأميّ والعالِم، لا عجزًا فيهم… بل لأن المنطق لا حاجة له هناك.
انظر إلى لعبة العيون: حين يصنع الوهم ابتسامة.
“الحب من أول نظرة” ضربة عصبية بارعة: تلتقط العينان صورةً في لمحة، فيخلق الدماغ ذكرياتٍ وهميةً تقنعنا بأننا نعرف من لا نعرف.
ظاهرة الذاكرة الزائفة تشرح هذا، لكنها لا تفسّر السحر الذي يجعلنا نبتسم.
لكن، أي سحر هذا الذي يحوّل زيف الذاكرة إلى مشاعر حقيقية تُزهِر؟
لعبة العيون ليست خداعًا، بل قصيدة تُنظم بلا قافية، لكن بإيقاعٍ بيولوجيٍ يخترق حواجز الزمن.
ولعل تلك اللعبة هي ما يدفع العراقي – وهو يرمق فتاة غريبة – أن يقول بلهفة الداعي: “أين رأيتك؟”، لا ليكذب، بل ليطلق للقلب حرية الافتراض.
فما أجمل أوهامًا تهدينا ابتسامة دون ثمن!
لكن من يهتم؟
العاشق لا يعنيه العلم. هو يرى وجهًا في الضوء، ويشعر بشيء يهتز في الداخل، فلا يسأل: “هل هذا منطقي؟”، بل يصدق ما يشعر به… فقط.
كما قال شاعر الغزل العباسي “الخبز أرزي”:
رأيت الهلال ووجه الحبيب … فكانا هلالين عند النظر
فلم أدرِ من حيرتي فيهما … هلال الدجى من هلال البشر
ولولا التورد في الوجنتين … وما راعني من سواد الشعر
لكنت أظن الهلال الحبيب … وكنت أظن الحبيب القمر
لم يهمّه أيهما القمر، فكلاهما ينير ظلمة وجوده.
تختلط الصور، وتتداخل الرموز، ويصبح المجاز هو الطريقة الوحيدة لفهم الواقع الجديد.
وربما لا يكون القلب بمنأى عن هذه اللعبة العجيبة بين الوهم والحقيقة.
القلب… ذلك العضو الذي ظل العلم يراه آلةً صماء، حتى اكتشفنا فيه عالمًا من الخلايا العصبية الحوارية.
عشرات الآلاف من الخلايا العصبية تتفاعل مع الجهاز العصبي المركزي عن طريق العصب الحائر.
والمذهل… أنه لا يتلقى فقط، بل يرسل.
فيُرسل إنذارًا للدماغ: طوارئ عاطفية! حالة حبّ أو فزع أو فقد…
ربما لم يكن الشعراء مخطئين تمامًا، حين جعلوا منه موطنًا للحب، ومركزًا للذكرى، ومخبأً للشوق.
نحن لا نحب بقلوبنا لأن العلم قال ذلك، بل لأننا نحس بشيء هناك.
حين نغضب، يدق بقوة. حين نخاف، يخفق سريعًا. حين نحب، ينبض بشوق.
وحين نطمئن، ينغمس في نعومة ساكنة، حتى تكاد تسمع فيه نغمة.
الدماغ يصنع المشاعر بصمتٍ كيميائي، أما القلب فيعلنها نبضًا يُسمع، كترجمانٍ للوجدان.
فاكتشاف الخلايا العصبية لم يأتِ إلا ليؤكد ما أدركه الوجدان منذ البدء.
في عالم تعجز فيه عقولنا عن فهم الحقيقة المجرّدة، يسافر خيالنا مع اللفظ، ويصنع من الرموز والمجازات جسرًا نحو المعنى.
قال تعالى:
“طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ” (الصافات: 65).
هذه الصورة التي تبدو كأنها رؤوس شياطين، تعجز عقولنا عن تصورها منطقيًا، فتأخذنا إلى عالم الخيال الذي يفسر الرهبة والرعب.
وكما قال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي … ومسنونة زرق كأنياب أغوال
هنا، يستحضر الشاعر مخلوقات خرافية في وصفه، ليمارس العقل فعل السفر في الخيال، متوسلًا اللامنطق ليخلق معنى يعبر عن رهبة الخوف في نفس المتلقي.
في نهاية الأمر: نعيش في عالم يقول لنا ما هو “صحيح”، لكننا نصدق ما يهزّنا… حتى لو كان كل المنطق في العالم ضده.
نعلم أن الشمس ثابتة في مركز النظام، لكن لغتنا تمنحها أجنحة الشروق.
نحن نعرف أن الأرض تدور، لكننا نقول: “أشرقت الشمس”.
وإذا قلنا إن الشمس أشرقت، أو إن القلب خفق، أو إن العيون رأت من النظرة الأولى قصة عمر… فلسنا نكذب.
لأننا نرفض أن تسرقنا الحقائق المجرّدة من أسرار وجودنا. نحن فقط… نحكي الحقيقة كما نشعرها، وسافر عقلنا إليها.
وكما في عوالم الكمّ، حيث يتحرّك الجسيم خارج قفص المنطق، يُفتح للإيمان مختبرٌ موازٍ تُجرى فيه تجارب الوجود التي لا تُكرّر: قلبٌ يخفق لاسم، وشمسٌ تشرق في لغة رغم معرفتنا بدوران الأرض.
ولذلك لم أستدعِ نيتشه ولا غيره، فالحياة التي نعيشها بشغف العاشق ورهافة الشاعر لا تحتاج إلى معادلات فلسفية، بل إلى قلبٍ يصدّق ما يشعر.
نحن لا نحتاج إلى فلسفات معقدة كي نبرر لماذا تخفق قلوبنا حين نشتاق، أو لماذا نؤمن بشروق لا يحدث.
نصدق فقط لأننا نشعر. وما دمنا نشعر، فذاك يكفينا لنحيا.
فالوجود يتحقق بالشعور لا بالعلم؛ لأننا لا نعيش بدوران الأرض بل بشروق الشمس، ولا نعقل الحب بل نختبره.
وهكذا نرسو بسفينة المجاز على شاطئ الحقيقة، لا لننكر العلم، بل لنعانق اتساع ما لا يُقاس.
هذا ليس رفضًا للعلم، بل توسيعٌ لحدوده؛ فكما قبل العلمُ غرابةَ الكمّ، عليه أن يقبلَ غرابةَ الوجدان.
وإذا كان العلم نفسه يحتاج إلى عقول تتجاوز المنطق التقليدي كي تفهم غرابة الكمّ،
فكيف نُخضع الوجدان لمنطقٍ لم يُكتَب بعد؟
كما قبلنا أن للجسيم حالتين، وأنه يمكن أن يكون في مكانين في آنٍ معًا، علينا أن نقبل أن للحقيقة وجهين: وجهًا علميًّا، وآخر شعوريًّا.
فكون المادة صلبة لا يُنفي قدرتها على التحوّل، تمامًا كما لا يُنكر العلم الإيمان إلا حين يعجز عن إدراكه.
من فقد الاختصاص لا يملك حق نفي وجود الحالة الغازية للمادة، وكذلك لا يملك منطق نيوتن أن يُلغي ما أثبته أينشتاين عن انحناء الزمكان.
فلنتجاوز إذًا التمنطق حول الإيمان، ولنفتح له، كما فعلت فيزياء الكم، أبواب الاحتمال.

أحدث المقالات

أحدث المقالات