تركيا ومحاولة هندسة الأمن الإقليمي بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وسوريا

تركيا ومحاولة هندسة الأمن الإقليمي بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وسوريا

تسعى تركيا في المرحلة الحالية إلى ملء الفراغ الاستراتيجي الذي سيخلفه انسحاب القوات الأمريكية من العراق من خلال طرح مبادرة تقوم على إنشاء منظومة أمنية مشتركة تضم كلًا من العراق وسوريا والأردن وتركيا وهي ليست تحالفًا عسكريًا صريحًا في مرحلتها الأولى بل منظومة تنسيقية تهدف إلى محاربة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش وكذلك تنظيمات مسلحة أخرى تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن المنطقة وتقوم هذه المبادرة على فكرة تأسيس تفاهمات سياسية وأمنية متدرجة قد تتطور مستقبلًا إلى شكل من أشكال التحالف العسكري الإقليمي الذي يضمن استقرار الجوار العربي والتركي ويضع حدًا للنفوذ الإسرائيلي المتنامي في المنطقة من خلال ما يُعرف بمشروع ممر داوود الذي تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا للعمق الجيوسياسي للمنطقة بأسرها الجانب التركي لا ينظر إلى هذه المبادرة بوصفها أداة لمحاربة الإرهاب فحسب بل كآلية لمعالجة ملف أكثر تعقيدًا وهو المسألة الكردية التي تمتد من جبال قنديل في العراق إلى شمال شرق سوريا حيث يشكل التمدد الكردي في هذه المناطق خطرًا استراتيجيًا على الأمن القومي التركي وقد تسعى أنقرة من خلال هذه المنظومة إلى فرض تسوية سياسية تتضمن إخضاع إقليم كردستان العراق لشروط الحكومة المركزية في بغداد والضغط باتجاه منع أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل في سوريا تكون له صلات عضوية مع حزب العمال الكردستاني أو امتداداته السياسية والعسكرية في المقابل تشير الرؤية التركية إلى أن إيران ستكون مستبعدة من هذا التحرك إذ ترى أنقرة أن النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان بدأ يتراجع بفعل الضغوط الدولية والخسائر الاستراتيجية في ساحات التأثير لذلك تسعى تركيا إلى شغل هذا الفراغ بدور أكثر فعالية وأكثر قبولًا إقليميًا وغربيًا في آن معًا وهي بذلك تطرح نفسها كبديل متوازن وقادر على التعامل مع ملفات المنطقة دون أن يُثقل بحسابات أيديولوجية أو أجندات طائفية الفوائد التي قد تنتج عن هذا التشكيل عديدة أولها أنه قد يعيد ضبط الأمن في مناطق واسعة من العراق وسوريا ويُضعف من قدرة التنظيمات المتطرفة على المناورة كما أنه يمنح الدول المنخرطة فيه أدوات أكثر استقلالية في اتخاذ القرار الأمني بعيدًا عن الهيمنة الأجنبية ويخلق إطارًا للتعاون السياسي يمهد لإعادة بناء الثقة بين الأطراف الإقليمية المتضررة من سنوات من التوتر والحروب أما بالنسبة لتركيا فهو يمنحها الفرصة لإدارة الأمن الحدودي بنفسها ومنع تحول الجوار إلى نقطة انطلاق لأي تهديد داخلي مستقبلي

إلا أن هذه المبادرة تواجه تحديات كبيرة أبرزها هشاشة العلاقات السياسية بين بعض الأطراف الفاعلة فالعلاقة بين أنقرة وبعض دول المنطقه  لا تزال متوترة على الرغم من وجود تنسيق أمني غير مباشر عبر وسطاء كما أن الملف الكردي نفسه يحمل ألغامًا سياسية وأمنية معقدة قد تؤدي إلى انفجار داخلي في حال فُرضت تسوية قسرية لا تتماشى مع تطلعات الأكراد كذلك فإن إقصاء إيران من هذه المنظومة قد يدفعها إلى استخدام أدواتها  لعرقلة المشروع من خلال تصعيد ميداني أو سياسي وأما الأردن فقد يتعامل بحذر مع أي مبادرة إقليمية تحمل أبعادًا أمنية واسعة نظرًا لحساسية موقعه الجغرافي وتشابك علاقاته مع أطراف متعددة أما على مستوى التفاعل الدولي فإن الموقف الأمريكي لن يكون بالضرورة داعمًا لهذا المشروع إذ أن واشنطن رغم انسحابها العسكري تبقى معنية بإبقاء موطئ قدم سياسي واستخباراتي في العراق وسوريا وتحديدًا عبر حلفائها الأكراد وتخشى من أن تتحول المبادرة التركية إلى أداة لتصفية هؤلاء الحلفاء وهو ما يُضعف النفوذ الأمريكي ويُعزز المحور التركي في المنطقة ومع ذلك قد تنظر واشنطن للمبادرة بعين البراغماتية إذا ما رأت فيها وسيلة لاحتواء إيران دون الحاجة إلى تدخل مباشر لكنها ستبقى تراقب أي تحول في هذه المنظومة إلى تحالف أمني مغلق قد يُقصيها نهائيًا من معادلة الشرق الأوسط من هنا فإن مستقبل هذه المبادرة يتوقف على قدرة تركيا على موازنة طموحاتها مع هواجس الأطراف الأخرى كما يتوقف على إدارتها للعلاقة مع كل من إيران والولايات المتحدة فإذا استطاعت أنقرة الحفاظ على هذا التوازن فقد تنجح في تأسيس منظومة أمن إقليمي جديدة تُعيد رسم خارطة التوازنات دون صدامات كبرى أما إذا بالغت في توظيفها للمبادرة كأداة نفوذ مباشر فقد تتحول إلى عامل جديد للصراع بدل أن تكون منصة للاستقرار..

أحدث المقالات

أحدث المقالات