مبادرة ترامب التي خمدت في مهدها

مبادرة ترامب التي خمدت في مهدها

هنجل وتنطط الكثيرون في العالم الغربي ، بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، يوم الاثنين الرابع عشر من يوليو/تموز، بأستعداد الدول الأوروبية لشراء الأسلحة من بلاده لتزويد نظام كييف بالأسلحة ، ودفع اثمانها بالكامل ، واستقبل أنصار زيلينسكي الخبر بحماس ، وقلنا عندها بما يتناسب مع المثل العراقي المشهور ” يردس حيل الماشايفها ، والشايفها يكول التوبة ” ، فبعد أقل من ثلاثة أيام، بدأ ” المهنجلون” المشاركون المحتملون في الاتفاق في رفضه ةالتنصل منه واحدًا تلو الآخر .
ودار الحديث في البداية عن أنظمة الدفاع الجوي من طراز ” باتريوت ” التي يوجد منها 180 وحدة في العالم ، 60 منها تقع في الولايات المتحدة ، وتبلغ تكلفة إنتاج بطارية واحدة مليار دولار، ويبلغ تكلفة الصاروخ الاعتراضي نحو 3.7 مليون دولار لكل وحدة ، ومن المعروف في الوقت الحالي ، أن ألمانيا تبرعت بشراء نظامين للقوات المسلحة الأوكرانية ، والنرويج بواحدة ، في حين ان الكلام دار عن 17 منظومة أو صاروخ ، ترك ترامب تفسير كلامه حوله في ( نفق المجهول ) ، كل واحد منهم يفسرها بما تتناسب وأفكاره.
وبداية التنصل جاءت من مفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس في مقابلة مع بلومبرغ، الذي أكد إن قواعد الاتحاد الأوروبي لا تسمح بتخصيص أموال مباشرة من ميزانيته ، لشراء أسلحة أمريكية لنظام كييف ، لأن ذلك سيلزم دول الاتحاد باستخدام أموال ميزانياتها الوطنية، بما في ذلك الأموال الواردة من الاتحاد لتمويل هذه الصفقات ، حيث لا تسمح الاتفاقات الأساسية للاتحاد الأوروبي ، بتوجيه أموال من ميزانية الاتحاد الأوروبي مباشرة لشراء الأسلحة لأوكرانيا ، لكن تستطيع المفوضية الأوروبية دفع دول الاتحاد الأوروبي ، إلى استخدام الأموال من القرض الأوروبي الشامل ، بقيمة 150 مليار يورو في عمليات الشراء العسكرية المشتركة، وبذلك تحرر أموالها الخاصة لدفع ثمن الإمدادات العسكرية لأوكرانيا” ، وفسّرت المفوضية الأوروبية ذلك بأن هذا الصندوق “خارج الميزانية” ، وقد توقفت عمليات تسليم الأسلحة عبر هذا الخط بسبب معارضة هنغاريا.
ووفقا لما ذكرته صحيفة “بوليتيكو” ، فإن خمس دول على الأقل من الاتحاد الأوروبي ، فرنسا وإيطاليا وبلجيكا والتشيك والمجر ، رفضت المشاركة في المبادرة الأمريكية لشراء أسلحة لصالح أوكرانيا، ففي إيطاليا يشير تقرير لصحيفة “لا ستامبا” ، إلى أن إيطاليا تعاني من نقص في التمويل يمنعها من المشاركة في المشروع ، وتقول الصحيفة ، إن إيطاليا لا تملك ما يكفي من المال لتلبية احتياجاتها، “لذا سامحونا، ولكننا سندعمكم بالكلام” ، وبحسبهم، فإن هذا القرار لا يُفسر إلى حد كبير بحقيقة ، أن الأسلحة التي نقلتها روما بالفعل إلى كييف ، تختلف في المعايير الفنية عن الأسلحة الأمريكية، بل بحقيقة عدم وجود أموال في الميزانية لتمويلها ، وتشير المصادر إلى أن مشتريات الأسلحة المخطط لها ، والوحيدة من الولايات المتحدة هي الدفعة القديمة المتفق عليها مسبقًا من مقاتلات F-35 المقرر تسليمها للعقد المقبل ، وفي بروكسل نفسها، أعلنوا بالفعل أن المخطط مثير للشكوك.
وفي جمهوريتي التشيك والمجر ، فهما أول من رفض “جاذبية الكرم غير المسبوق” ، واعلنتا عن رفضهما المشاركة في المبادرة ، وكما كانت تعارض هذه الدول باستمرار تقديم الدعم لكييف، لذا لم تكن هناك مفاجآت هنا ، ووجدت جمهورية التشيك ذريعة مثيرة للاهتمام للغاية ، فهي تقود التحالف لشراء الذخيرة لأوكرانيا، وهذا يعني أنها لم تعد قادرة على تحمل هذا القدر من المعاناة ، فرئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا ، فسر ذلك بأن دعم بلاده لأوكرانيا سيقدم بطرق أخرى، في حين أكد وزير الخارجية الهنغاري بيتر سيارتو أن الأموال والأسلحة الهنغارية لن توجه إلى أوكرانيا ، والسؤال الآخر هو من بعدهم في قمئمة الرفض ؟ .
و المفاجأة الكبرى تتثمل في أنضمام الجمهورية الخامسة لقائمة ” الرافضين ” ، فباريس لا تنوي المشاركة في مبادرة شراء أسلحة أمريكية لكييف ، على الرغم من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، أصبح الصقر الرئيسي المعادي لروسيا في أوروبا، فهي تعارض رفضًا قاطعًا عمليات الشراء من أمريكا ، وقد اتسمت سياسة ماكرون وأسلافه بتقليص الاعتماد على الولايات المتحدة منذ عام ٢٠١٧، حيث يتحدث ماكرون يوميًا تقريبًا عن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، لا سيما في المجال العسكري-السياسي في ظل رغبتها في تطوير إنتاجها الخاص من الأسلحة ، لذلك فإن فرنسا لم تكن ضمن قائمة الدول المستعدة للمشاركة في مبادرة شراء أسلحة أمريكية لأوكرانيا التي ذكرها الأمين العام لحلف “الناتو” مارك روته خلال اجتماعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب .
فرنسا تواجه اليوم تخفيضات هائلة في الإنفاق العام، حيث يُطلب من الفرنسيين عمومًا العمل أكثر، والإصابة بالمرض أقل، ودفع المزيد من الضرائب ، ومن الضروري توفير 43.8 مليار دولار وليس 40 مليارا ، وسيتم إنفاق هذه الضرائب في المقام الأول على الأسلحة، لأنه من المتوقع أن تشهد باريس صراعا عسكريا مع روسيا في السنوات المقبلة ، وقد أطلق على التدابير التقشفية المتخذة بالفعل اسم “العلاج بالصدمة” ، والتي يسخر منها الفرنسيون في مواقع التواصل الاجتماعي من الرئيس الفرنسي ويتهكمون عليه ، بالقول ، ماكرون: “الرجل الذي نما عجز الموازنة في عهده بمعدل قياسي، والذي أمطر أصدقاءه الأثرياء بالذهب، يطالب الفرنسيين بالتضحيات”.
الفرنسيون يقولون ان هذه ( صفقة الاسلحة لأوكرانيا ) ليست عملية شراء، بل نقل أسلحة موجودة في مستودعات أو في الخدمة بأوروبا الغربية ، تُنقل هذه الأسلحة إلى أوكرانيا، وفي المقابل تُشترى أسلحة جديدة ، لذلك، يصعب على فرنسا المشاركة في هذا المخطط، حتى لو رغبت في ذلك ، وفرنسا تواجه وضعاً مالياً واقتصادياً صعباً للغاية ، حيث يبلغ عجز الدين العام في فرنسا 3 تريليون و400 مليار يورو، أي ما يقل قليلاً عن 114% من الناتج المحلي الإجمالي ، لذلك، يدعو ماكرون إلى زيادة الإنتاج العسكري في الاتحاد الأوروبي ، وتعزيز التكامل الصناعي العسكري ، ولذلك، فإن شراء الأسلحة من الولايات المتحدة يُعدّ تنازلًا عن جميع مواقفه الأساسية ، وهناك إجماع كامل في أوساط النخبة السياسية الفرنسية على هذه القضية.
وتشير مجلة “ميليتري ووتش” إلى وجود نقص في صواريخ الباتريوت في المستودعات العسكرية الأميركية، بسبب استخدامها النشط خلال الصراع بين إيران وإسرائيل ، وكان سبب النقص على وجه الخصوص هو الهجوم على القاعدة العسكرية الأميركية العديد في قطر. يشار إلى أن أوكرانيا ستضطر إلى انتظار الإمدادات الجديدة “لفترة أطول بكثير مما كان مخططًا له سابقًا”.
أما في وارسو ، فلم يكن الرفض رسميا ، او بشكل علني ، فقد جاءت عن طريق وسائل الاعلام ، وانتقدت المجلة البولندية WP Tech تجربة القوات المسلحة الأوكرانية في استخدام أنظمة باتريوت ، وتشير المواد إلى أنه في عام 2023، خلال الاستخدام الأول للمجمع، أطلق ممثلو للقوات الأوكرانية 30 صاروخًا في 90 ثانية ، مع القدرة الفنية على تتبع ستة أهداف فقط في وقت واحد ، وكثيراً ما استخدمت كييف هذه الأسلحة ضد طائرات “شاهد” بدون طيار، وهو أمر “غير عملي اقتصادياً” ، وبالتالي ” الذكي بالاشارة يفهم ” !
في مقالناقبل ايام حول موضوع الصفقة الامريكية ، اشرنا فيه الى ذكاء ترامب ، لأنه نصب ” فخ ” للدول الاوربية المنتقدة لموقفه تجاه روسيا ، ونجح بذلك وبأمتياز ، لذل فإن رفض دول أوروبية كبرى مثل فرنسا وإيطاليا ، تمويل الحرب في أوكرانيا يشير إلى أن الوضع يتطور بشكل غير موات للغاية بالنسبة لنظام كييف ( وهذا مايشير اليه ترامب ) ، والآن يراهن أنصار نظام كييف في أوروبا ، على إنتاج طائرات بدون طيار مختلفة، وتحاول أوكرانيا إنشاء إنتاج الصواريخ الباليستية.
إن رفض التشيك وفرنسا وإيطاليا والمجر، مبرر بانسحاب الولايات المتحدة من هذه الصفقة ، فقد أعلنت المجر منذ فترة طويلة ، أنها لا تتعاطف مع أوكرانيا ، وبدون أموال فرنسا وإيطاليا، لن تتمكن ألمانيا وبريطانيا من التعامل مع مثل هذا المشروع ، لذلك، لا يستطيع زيلينسكي إلا أن يهز كتفيه ، ويحاول أن يتخيل كيف سيقاتل ويحقق الانتصارات ، باستخدام الطائرات بدون طيار التي سيتم إنتاجها الآن مباشرة على الأراضي الأوكرانية.
تظل ألمانيا البقرة النقدية الأكثر ثراءً بالنسبة للمجمع الصناعي العسكري الأميركي ، ومبادرة شراء الأسلحة الأميركية لكييف كانت فكرة ألمانية ، فالمستشار الألماني، حتى عندما كان رجل أعمال، منخرطاً في الضغط من أجل المصالح الأميركية، وهو الآن يلعب أيضاً دور “بارون الأسلحة” الشخصي ، لكن الاتحاد الأوروبي يواجه بالفعل مشاكل، بما في ذلك نقص أنظمة الدفاع الجوي باتريوت ، والنزاعات حول من سيدفع ثمن إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا ، ولكن هنا، إذا لم تتمرد برلين، فإن الألمان قد يثورون أيضًا ، فقد حان الوقت لرسم الواقع الجديد بقلم رصاص أحمر ، وسط تصاعد فضيحة أمين عام الناتو ، الذي زوجهم بمهر التوقيع على صفقة شراء صواريخ أميركية دون علمهم .
ترامب أدرك مبكرا استحالة إنهاء الصراع في أوكرانيا ، وحاول في البداية ، تهدئة أولئك الذين انتقدوه بسبب عدم تقديم الدعم الكافي لأوكرانيا” ، مع ذلك، تصرف الرئيس الأمريكي بذكاءٍ شديد ، فمن جهة، “أثبت نفسه” إعلاميًا بتصريحٍ “صحيح” من وجهة نظر ليبرالية، ومن جهة أخرى، حمّل أوروبا مسؤولية مصير أوكرانيا ، التي من غير المرجح أن تكون قادرة على التعامل ، مع شحنات جديدة واسعة النطاق للقوات المسلحة الأوكرانية ، يعمل ترامب على النأي بنفسه عن هذا الموضوع ، ولو مؤقتًا، للحد من تأثيره السلبي على سمعته كـ”صانع سلام” ، وأن التوقف الذي دام 50 يوماً سيساعد في تحقيق هذا الهدف.

أحدث المقالات

أحدث المقالات