في زمن الفراغ… حين يتقدّم الجهادي واللص

في زمن الفراغ… حين يتقدّم الجهادي واللص

في اللحظة التي ينهار فيها النظام القديم، ويتعذّر على النظام الجديد أن يولد، تتوقف الحياة في منتصف الطريق. لا الدولة قائمة بمؤسساتها، ولا البديل قد تَشكّل بعد. يخيّم على المشهد العام الفراغ، وتنهض من داخله كل مظاهر اللاشكل، اللاقرار، واللاوجه. هذا الفراغ، كما أشار المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، لا يبقى ساكنًا، بل تستغله الوحوش. وما أكثرها في أوطاننا.
ما عاشته دول مثل العراق وسوريا وليبيا خلال السنوات الأخيرة لا يمكن اختزاله في حروب أو نزاعات سياسية. لقد شهدت هذه البلدان تحلّل الدولة بمفهومها الأوسع: المؤسسات، القوانين، الشرعية، العدالة. ومع غياب هذه البنية، تسلل إلى المشهد من كانوا على هوامشه: الجهادي الذي لا يحمل نورًا بل ظلامًا، واللص الذي لا يسرق في الخفاء، بل يحكم باسم الشرف ويدّعي الفضيلة.
فالجهادي في هذه اللحظة لا يأتي مصلحًا، بل آمرًا ناهياً، يحتكر الدين ويوظّفه كأداة قمع وتكفير، لا دعوة وفكر. خلفه أو إلى جانبه، يظهر اللص في ثوب السياسي أو التاجر أو “رجل المرحلة”، ينهب ما تبقّى من خيرات الأرض، يقتسمها مع شركائه في الغنيمة، ثم يعلو صوته خطيبًا عن الأخلاق والنزاهة.
كما قيل: “عندما تغيب الدولة، يظهر رجل الدين واللص.” هذه العبارة، المستوحاة من روح ما قاله غرامشي، تعبّر عن منطق الفراغ التاريخي. ففي لحظة الاضطراب، لا يصعد الأفضل، بل من يملكون الجاهزية للسيطرة، حتى لو كانت أدواتهم القتل أو السرقة أو الخداع. ليس لأنهم أقوياء، بل لأن الأرض باتت خالية من الردع والنظام.
في هذه البلاد التي غابت عنها الدولة، لا يحكم القانون، بل تُرفع الفتوى. لا مؤسسات، بل ميليشيات وسلاح. لا عدالة، بل ثأر ومناطق نفوذ. المواطن يتحوّل إلى تابع، أو خائف، أو هارب. تُقايض كرامته بالأمان، ويصير صمته هو وسيلته الوحيدة للنجاة.
أما العقل، فقد توارى، صمت، أو انكسر. أولئك الذين يفكرون هم إما مغتربون بأجسادهم، أو منبوذون بأفكارهم. التفكير بات تهمة، والتنوير خطيئة، والمثقف متهم بالعمالة أو الانفصال عن “الواقع”. فالعقل الحر لا يليق بزمن تهيمن فيه الغرائز على القيم.
لكن ما نعيشه اليوم ليس مجرّد أزمة سياسية أو أمنية، بل أزمة وعي جمعي، أزمة مشروع حضاري أُفرغ من مضمونه. حين تسكت الدولة، لا يصعد البديل الأفضل تلقائيًا، بل يطفو من كان كامناً في الظلال. يملأ الفراغ من لا يستحق، لأن الفضاء فارغ، والأبواب مفتوحة لكل متسلّق.
وهكذا، لا يولد الوحش من فراغ الطبيعة فقط، بل من فراغ التاريخ والعدالة والضمير. وما نراه اليوم من مشاهد العبث ليس نتاج لحظة، بل نتيجة تراكم طويل من القهر، وغياب الرؤية، وتدهور الثقة بالدولة كمؤسسة راعية وحامية.
في النهاية، يبقى السؤال المهم:
هل يعود صوت الدولة يومًا بصورته الحقيقية؟ دولة القانون لا الفتوى، المؤسسة لا الميليشيا، العقل لا العصا؟
أم أننا سنعيش طويلاً في زمن الوحوش، نعدّ أيام الغياب، ونُطفئ نور الأمل خوفًا من أن تراه أعين اللصوص والجلادين؟

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات