في بلدةٍ صغيرة تُدعى سدة الهندية، تنام على ضفاف الفرات وتحلم على وقع هدير سده التاريخي، وُلد الشاعر باسم محمد الشمري في الرابع والعشرين من أيلول عام 1969، ليفتح عينيه على مشهد عراقي قحّ، حيث تمتزج المروءة بالفطرة، وتُسقى الكلمة بماء النهر قبل أن تُكتب بالحبر.
منذ سنوات الطفولة الأولى، كانت اللغة تشدّه برباط خفيّ، فكان يرى في مفرداتها ملعبًا وفي جرسها موسيقى داخلية لا يفهمها إلا القلب. أكمل دراسته الأولية في مدينته، ثم حمل شغفه بالعلم إلى جامعة الموصل حيث نال شهادة البكالوريوس في العلوم سنة 1993، لكنّه لم يكتفِ بمختبر الحياة أو قوانين الطبيعة، بل راح يصنع توازنًا آخر في حياته بين العقل والعاطفة، بين المعادلة والقصيدة، بين السبورة والقصيدة العمودية التي عشقها على طريقتها الأولى.
اشتغل باسم محمد في ميدان التعليم، مدرسًا ثم مديرًا، وترك أثرًا تربويًا في نفوس طلابه كما يترك الشاعر أثره في وجدان قرّائه. لكن صوته لم يبقَ حبيس الجدران الصفية، بل خرج إلى الفضاء الثقافي مؤسسًا ومنظمًا ومسهمًا، فأنشأ منتدى السدة الثقافي وملتقى السدة الثقافي، وحرص على أن تكون بلدته نقطة ضوء في خارطة الأدب العراقي.
أكثر ما يميّز شعر باسم محمد، كما أشار بعض النقاد، هو تآلف البساطة مع العمق، إذ لا يركن إلى الغموض المتعمد ولا يسرف في التقريرية، بل ينحت القصيدة كما ينحت النهر مجراه، ببطء وصدق، تاركًا وراءه نغمًا نقيًّا، يلامس النفس دون ضجيج. في مجموعاته الشعرية الثلاث: “صفا ودي” (2018)، “وغنّى الطير الحاني” (2022)، و”دنا خلي” (2024) ، تظهر ملامح هذا الأسلوب؛ حيث اللغة المأنوسة تُعاد صياغتها برؤى شاعر خبِر الحياة، وتدرّب على تحويل الألم إلى ترنيمة حبّ، والحنين إلى حكمة ناعمة.
وقد لفت بعض النقاد، أمثال الدكتور سعد ياسين يوسف، إلى قدرة الشاعر على “إحياء النغمة التقليدية دون أن يسقط في أسر التكرار”، فهو يجيد اللعب على أوتار العروض لكنه يزرع في قلب الوزن نبضًا معاصرًا، مستفيدًا من قراءاته العميقة وتجربته الحياتية الغنية، لا سيما في ميدان التنمية البشرية، إذ يحمل شهادات تدريب دولية معتمدة، وهو ما أضاف إلى نصوصه بعدًا إنسانيًا يربط بين الذات والعالم، بين القول والفعل.
كما رأى فيه الناقد حسين عبد اللطيف الشمري، مثالًا على “المعلم الذي يكتب كما يعيش”، مشيرًا إلى أن “باسم محمد لا يكتب ليكون شاعرًا، بل يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكون شاعرًا”، وهذا الصدق في التعبير كان كفيلاً بأن يجعل اسمه يتردد في مهرجانات العراق، حيث شارك في أمسيات شعرية من بابل إلى البصرة، ومن بغداد إلى الموصل، وكان حكمًا في أكثر من دورة لمهرجان شاعر المعلمين، كما أدار مهرجان القصة القصيرة في نقابة المعلمين سنة 2023.
ولعلّ أكثر ما يثير انتباه المتابعين لمسيرته هو هذا التوازن البديع بين الشعر والتربية والبحث العلمي؛ إذ لم يتخلّ عن دوره كباحث، فنشر ثلاث بحوث علمية، وله مؤلفات مخطوطة تُبشّر بإضافة نوعية في مجال اللغة، مثل “العروض المعنى” و”معجم الألفاظ المندثرة”، وهي مشاريع تسير جنبًا إلى جنب مع مشروعه الشعري.
ولم تقف قريحته عند الشعر فقط، بل طرق باب الرواية في عمله “حديث الموتى” (2024)، مستثمرًا خبرته النفسية والاجتماعية، التي اكتسبها من عمله كخبير دعم نفسي ضمن منظمة Together السلوفينية المرتبطة بالاتحاد الأوروبي، ليرسم بوعي سرديّ تفاصيل الإنسان العراقي المنكسر، الرافض للموت الصامت، والمتمسك بالأمل كمن يتمسك بحافة الضوء في ليل طويل.
إن باسم محمد، في نظر محبيه، ليس شاعرًا فحسب، بل هو صوت تربوي ينشد الحقيقة، وبوصلة وجدانية تهتدي بها القصيدة في زمن التيه، رجلٌ جمع بين حسّ المسؤولية الإدارية، ودفء المعلم، وعمق الشاعر، وبقي على الدوام ذلك الحالم الهادئ، القادم من ضفاف الفرات، يُنشد للوطن والإنسان ويكتب بلغة القلب، لا ليدخل بها سوق الأدب، بل ليوقظ بها ما نام من ضمائرنا.
في زمنٍ كثر فيه الشعراء وقلّت القصائد الصادقة، يبقى باسم محمد واحدًا من الأصوات التي تستحق الإنصات، لا لضجيجها، بل لصدقها الذي لا يشيخ.