تُشكّل قوات الحَشد الشعبي مُنذ تأسيسها ابرز انموذجا للتعبئة الشّعبية التي دافعت عن البلد ودفعت مخاطِر الانهيار جرّاء الهجمة الداعـــشيـــــــــــة على العراق ، ومن الطبيعي ان امريكا وحلفاؤها لا تنظر الى هذا التَّشكيل بإيجابية بل بعين الاستهداف عاجلا ام آجلا ، وتستمر بإرسال رسائلها التي تندرج تحتالضغوط القصوى للحصول على تنازلات ومساومات حكومية لهذا الملف ، فيما تُمثّل العلاقة بين الحشد الشعبي -كمتطوعين- والفصائل المسلحة ثنائيــــة جدليــــة، وتداخلًا مُعقدًا أمام الحكومة العراقية التي يترأسّها السوداني؛ إذ لم يتمكَّن الحشد من فك ارتباطه مع تلك الفصائل التي أعادت هيكلتها وتنظيماتها تحت هذا الاسم، والتي اعتمدت كليًا على اسم الحشد في الجانب السياسي، وتوسيع رقعة النفوذ السياسي والاقتصادي ، وعلى الرغم من المساعي الجارية ضمن الإطار التنسيقي في الحوار، وإعداد خطة تقضي بنزع سلاح الفصائل، إلا أن تشابك المصالح والارتباطات الإقليمية يعقّد المشهد ما لم تكن هناك مساعٍ إقليمية لتقريب وجهات النظر ، او ضاغط محلي له صوت مسموع على المستوى الديني والاجتماعي، ولا ننسى أن هناك حالة التباس يصعب معها تحديد ارتباط القيادات، وما إن كانوا فعليًّا خاضعين لكيان الحشد كجزء رسمي من الدولة ، أم هم مرتبطون بمليشيات مسلحة لها ولاءاتها الإقليمية خارج سياق الدولة وقوانينها.
وتتوالى الرسائل الامريكية مع وجود الحاضنة السياسية التي تنفذ الاملاءات وتقدم التنازلات ، حيث الدوافع الكامنة وراء تلك الرسائل التي تكشف عن الخطوط العامة لكيفية التعامل مع “الفاعل المسلَّح” في العراق على وجه الخصوص ، وفي المنطقة على وجه العموم ، كاشفة عن تطور التغيير الجيوسياسي المعقّد في المنطقة ، وما أكده مايكل والتز في لقاء له ” سيكون لنا تعامل صارم مع الفصائل العراقية” وذكر طريقة الردع التي سوف تستخدم بالضرب المباشر، بشكل أقوى ممّا حدث في لبنان وغزة، وهذا تهديد وتبيان واضح للمشهد العراقي إن حاولت الفصائل والسلطة العراقية كسر قيد الإقامة الجبرية الأميركية ، وبما ان العراق يمثل ساحة للصراع ذات اهمية استراتيجية بين ايران وامريكا فهو يمثل تحديا صعبا خاصة ان الفاعل السياسي والعسكري الايراني يصعب عليه التخلي عن النفوذ في العراق ما لم يحصل على ضمانات استراتيجية وبديل آخر على طاولة المفاوضات ، وهو تحت ظل الخسارة التي داهمته في لبنان وسوريا واليمن ، وهذا ما عبّر عنه احد السياسيين الاصلاحيين البارزين “حسين مرعشي” حيث يرى ان المنطقة تعيش فصل جديد بعد خسارة لبنان وسوريا وان الوضع اصبح مختلفا تماما عن الماضي .
وبالرغم ان القوة العسكرية في العراق لا تملك ما يملكه الحزب في لبنان ، وليس لديها قوة واستراتيجية الحوثيين في اليمن ، الا ان الرؤية الامريكية تعتبرها جزء من الاذرع الايرانية التي يتم استخدامها في المعادلة الاقليمية ، فهي بمثابة الرئة الاقتصادية التي تفك الاختناق عن ايران عن طريق تغلغلها في القرار السياسي والنفوذ الاقتصادي في العراق
وهنا يتبنىّ الصدر رؤية عراقية منسجمة دينيا وسياسيا مع مرجعية النجف الاشرف ، محاولا ردم الهوة ،وكشف الشعارات التي يستخدمها امناء السلاح والسياسة للحفاظ على مكتسباتهم ورغبتهم الجامحة في التغول على حساب انهاك العراق وإضعافه وزجه في معادلات اقليمية ودولية لو بإدعاء عمليات مجهولة يرافقها تصعيد إعلامي ، فحملة السلاح على حد تعبير“غوستاف لوبون” يعلمون جيدا أن الجماهير لا تتحرك بالتحليلات السياسية أو الأرقام، بل تتحرك بالشعارات الكبرى مثل: الحرية ،كرامة الإنسان، المساواة، الحقوق، فهذه الكلمات تغري النفوس ، لكنها تظل فضفاضة وبدون مضمون واضح، مما يسمح باستغلالها بسهولة وخاصة في معترك سياسي وحدث انتخابي مرتقب يهيء لهم النفوذ الاكبر وتوسعة المنافع الى اكبر قدر ممكن .
يحاول الصدر الى ترسيخ وتوسعة الجبهة العراقية المحايدة بعيدا عن الصراع في المنطقة، وقد نجح في تدشين هذه الجبهة خليجيا واقليميا ، وكذلك في حادثة المطار عندما هدّدت ايران القواعد العسكرية الامريكية في العراق فيما حشدت الفصائل المسلحة قواتها للدخول اعلاميا في هذه المعركة ، ودخل الصدر بمناورة عصيبة جدا وهي عملية ترويض الفصائل العسكرية المشكلة عراقيا واوقف اي عمل عسكري بالنيابة ، في حين ان ايران اعلنت اكتفاءها بالرد دون الحاجة الى وكلاؤها واخرجهم من عنق الزجاجة ومن مصير محتوم ، وكذلك موقفه الحاد والشجاع في نفس الوقت من الصراع السوري بل منع اي تدخل عراقي في الشأن السوري وخضوع القوة السياسية والعسكرية لهذا الموقف واتخاذ موقف السكوت المطلق ، و موقفه الشعبي الداعم لغزة ولبنان وايران رغم ما يلاقيه من رد صبياني اهوج وتحشيد اعلامي بالضد منه !!!
ما يعرف عن الصدر انه لم تعرف له شفرة محددة ليسهل تفكيكها ومعرفتها بسهولة ، يعود الصدر مرة اخرى في ظل المقاطعة وفشل كافة المساعي الدينية والسياسية لثنيه عن القرار ، دشن خطابه للرد بـــ دمج الحشد الشعبي وحل الميليشيات ، وعاد الطلب مرة اخرى يثير جدلا سياسيا واعلاميا ، يحاول الصدر في هذه الخطوة ان يكشف ملامح المنطقة التي تتقلب على صفيح ساخن ويتشبث بحماية العراق من اي مغامرة خارجية وسط وضع سياسي هش وحالة من الانقسام الطائفي والمجتمعي ، فهو يستخدم الضاغط المؤثر خارج السلطة وخارج الحسابات السياسية ، بخلق تأثير جماعي ورأي عام من اجل ترتيب سلم اولويات الابتعاد عم الصراع وحماية كيان الحشد من عبث المتاجرين به سياسيا واقليميا
فلا احد ينكر الخطر المحيط بالعراق على وقع هذه التغييرات والحفاظ على قوة شعبية عقائدية هي من مصلحة الجميع ، بالاضافة الى ابعادها عن التأثير الاميركي وتهديداته المستمرة والذي بدأ فعليا بأولى الخطوات وهي ازمة الرواتب التي اثارت مخاوف حقيقية لجدية الجانب الامريكي واستعداده لتمرير اتفاقياته للتأثير على هذه المؤسسة .
مَن يعترض على مطالبة مقتدى الصّدر بضرورة التّعاطي مع الملفّ الأمريكيّ سياسيّاً وبشكلٍ عُقلائيّ، تحت ذريعة أنّ الصّدر تَخلّى عن مقاومة الأمريكان، هو واهم وموهوم، لأنّ أمريكا لا تخشى من الصّواريخ (العوراء) التي لا تعرف الوصول إلى أهدافها بل هي صواريخ وهمية للاستعراض الاقليمي ، فقبل أن تحاولوا إرشاد الصّدر إلى الصّواب، حاولوا إرشاد مواقفكم الى جانب الصواب للحفاظ على ارواح منتسبي الحشد من المغامرات .