عاصرتُ تفاصيل نشأة النظام السياسي في العراق بعد عام 2003، وكنت على تماس مباشر مع الحوارات التي أسست لدستوره ومؤسساته وآلياته. ولم تكن الصورة يومها بسيطة أو مكتملة، بل كانت مجتزأة ومتوترة، قائمة على توازنات ظرفية وضرورات مرحلية أكثر من كونها تعبيرًا حقيقيًا عن مشروع دولة متكامل. لذلك، لم يكن غريبًا أن تستمر التناقضات في بُنى هذا النظام حتى بعد أكثر من عقدين، وأن تتكرس داخل مؤسساته العليا، لا في هوامشه فقط.
ما يجري اليوم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ليس خلافًا في وجهات النظر ولا تباينًا طبيعيًا بين مؤسستين، بل هو تجلٍّ عميق لخلل بنيوي لم يُعالَج منذ التأسيس. فحين نضع في الميزان كلًّا من رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس مجلس النواب محمود المشهداني، لا يجوز أن ننظر إليهما بوصفهما مجرد مسؤولين يؤديان مهامهما، بل كمؤشرين على نمطين متباينين من التصور السياسي، والتعبير عن السلطة، وتعاطي كل طرف مع فكرة الدولة.
وليس المقصود هنا أن السوداني يمثل المزاج الشيعي العام، أو أن المشهداني يعكس المزاج السنّي العام، فالحقيقة أن المزاج الشعبي في أغلبه متبرّم من النظام بكل رموزه، ورافض لبنيته الحالية، لكنه لا يملك أدوات التغيير ولا مشروعا موحدًا للتعبير عن ذلك الرفض. إنما هما يمثلان، على نحو أدق، مخرجات تفاهمات سياسية داخل المكونات، وليسا إفرازًا لإرادة شعبية ناضجة أو تفويض جماهيري صريح. فكلاهما جاء في سياق تسويات، لا انتخاب مباشر ولا تفويض وطني.
رغم ذلك، فإن اللغة التي يصدر بها كل منهما تُظهر حجم التفاوت بين موقع وآخر في الدولة، وبين ما يُنتظر من كل مؤسسة وما يُتاح لها. فالمشهداني، برغم ما يحمله من تاريخ سياسي طويل، لا يفصل بين شخصيته الصريحة وموقعه الرسمي، ويُدلي بتصريحات صادمة أحيانًا لأنها تنبع من شعور عميق بالاختلال في موازين الدولة، لا من رغبة في التصعيد المجاني. هو يُجسّد ما يمكن تسميته بقلق الشراكة، حيث تشعر كتلته ومحيطه بأنهم داخل النظام من دون أن يكون لهم نصيب حقيقي في القرار، أو قدرة على التأثير البنيوي فيه. لذلك تخرج عباراته أحيانًا وكأنها كسر لصمت طويل أكثر منها تعبيرًا عن برنامج أو مسار.
في المقابل، يظهر السوداني في خطاباته محافظًا وهادئًا إلى حدٍّ بعيد، وهو ما يُفسَّر أحيانًا على أنه دبلوماسية، وأحيانًا على أنه حذر، وأحيانًا كأنه تردد في اتخاذ الموقف. لكن هذا الهدوء لا يعكس بالضرورة مزاجه الشخصي، بقدر ما يعكس موقعه وسط شبكة معقدة من التوازنات الداخلية والخارجية. فهو ليس صاحب القرار المطلق، لكنه يتحرك ضمن هامش مرن يسمح له بالإدارة لا بالتغيير الجذري. ولو رجعنا إلى تصريحاته قبل توليه المنصب، لوجدنا له مواقف أكثر صراحة، وأكثر تحررًا في انتقاد المحاصصة وفساد النظام، مما يدل على أن الشخصية السياسية تتبدل حين تنتقل من المعارضة أو الظل إلى موقع القرار.
التناقض في الخطابين، إذًا، ليس خللاً في الأسلوب، بل هو انعكاس للفارق بين من يشعر أنه شريك مضطهد يريد أن يُسمع صوته، ومن يشعر أنه مسؤول مقيد يسعى للبقاء عبر التهدئة. وكلاهما يتحرك داخل نظام لم يُصغ على أساس برنامج وطني مشترك، بل على أساس تقاسم النفوذ والتمثيل الرمزي، لذلك لا يتحدث أحدهما بلغة الآخر، ولا يتصرف أحدهما من منطلقات الآخر.
ورغم أن المؤسسات الدستورية ما زالت قائمة اسميًا، فإن خطاب كل من السوداني والمشهداني يكشف أننا نعيش ازدواجًا في الوعي السياسي داخل الدولة نفسها. فمن جهة، هناك مَن يرى أن الاستقرار أولى من التغيير، وأن الحذر فضيلة في هذه المرحلة، ومن جهة أخرى، هناك مَن يعتقد أن التغيير قادم وأن السكوت عن الخلل مشاركة فيه، وأن الصراحة هي بداية التصحيح.
لكن السؤال الأهم يبقى: ما قيمة هذا التناقض إن لم يُفضِ إلى مراجعة عميقة للمسار؟ هل المطلوب أن يستمر كل طرف في التعبير عن بيئته من دون الالتقاء على نقطة مركزية تُعيد تعريف مفهوم الدولة والسلطة؟ أم أننا بحاجة إلى إعادة التفكير في العقد السياسي نفسه، لا في أدواته فقط؟
هذا التباين بين رئيسي السلطتين لا يجب أن يُقرأ على أنه خلاف بين شخصين، بل على أنه إشعار بأن النظام – كما بُني – لم يعُد قادرًا على إنتاج خطاب موحد للدولة، ولا على صياغة توافق وطني حقيقي، والأكثر من كل هذا أنه لا يعكس الرغبة الشعبية وهنا، تحديدًا، يكمن التحدي الأكبر.