في ساعات الصباح أو في ساعات العصر، ومع برودة الجو حين تكون الشمس قد خففت من حرارتها اللاهبة في الصيف والخريف، أو في الساعات المشمسة في الشتاء والربيع، كانت هناك في القرى خطوات ثابتة نراها وهي تمشي على الطرق الترابية، تنقل معها حكاية نقل الماء وما يرافقه من التعب ومشقة الطريق. ورغم أنها تنتهي مع حكايات بين بنات القرية فيما بينهن كصديقات، ويحق لهن الكلام فيما بينهن عن كل أوضاع البنت الريفية وأمنياتها المستقبلية بالزواج من ابن عمها أو ذلك الشاب الآخر ابن قريتها الذي أعجبت به لرجولته…
إنها خطوات ثابتة تتكرر يوميًا من نساء القرى والريف، والتي نطلق عليهن كلمة الملايات لأنهن حملن على عاتقهن مسؤولية جلب الماء من النهر إلى البيوت، عبر طرق وعرة، على ظهور الحمير أو البغال، أو أحيانًا على رؤوسهن إذا كانت المنازل قريبة من النهر….
كان درب الملايات ليس مجرد ممر ترابي أو طريق نيسمي يصل بين النهر والبيوت، بل كان شاهداً على كفاح يومي تقوم به بنت الريف، كشاهد للوفاء بين المرأة وعائلتها، حيث تختلط فيه البساطة بالتضحية. فهؤلاء النساء لم يكنّ مجرد ناقلات للماء لعوائلهن، بل كنّ حاملات للحياة برمزيتها ومتفاعلات مع واجباتهن المنزلية، يواجهن حرارة الشمس وزمهرير الشتاء، ولكنهن يمضين في صمت شامخ دون كلل أو ملل، كأنهن يقدمن الماء للكون بأسره. لأن كمية الماء التي يجلبنها إلى المنازل هي نفسها المياه الصالحة للشرب لتلك العوائل، وكذلك مياه الغسيل العام، إضافة إلى أنها الماء الذي تسقى منه الحيوانات التي تربى في المنازل. كان السقاء واجباً يومياً، لا يغيب مهما اشتدت الظروف، وكان هذا الدرب ينبض بالحركة، وما أجمل قصص العشاق مع ذلك الطريق والذكريات الجميلة بين الأصدقاء. ما أجمل الذكريات ونحن نسمع فيه أصوات الحمير، وصدى حديث النساء والمزاح الطاهر وضحكات متقطعة مع حديث جميل يخفف عناء الرحلة. حتى النهر كان بحنينه، وحافاته الرملية يحتضن أقدامهن ليمنحهن الحياة قطرةً قطرة، وليتكلم معهن في كل رحلة عن مغامرات العشاق فوق شواطئه الجميلة….
ومع مرور الزمن وعصر التكنولوجيا الحديثة، جاء التغيير… ودخلت مشاريع الإسالة إلى أغلب القرى والأرياف، وبدأت أنابيب الماء تشق الأرض إلى خزانات كبيرة لتحمل النعمة التي جعل الله منها كل شيء وبصورة مباشرة إلى البيوت. واختفى ذلك الدرب مع كل الذكريات الجميلة شيئاً فشيئاً، وتلاشت وذبلت خطوات الملايات التي كانت تملأ الصباح ووقت الغروب بالحركة والعزيمة. وتحولت عملية نقل الماء من أمنيات وذكريات يومية إلى روتين اعتيادي.
لكن رغم هذا التقدم التكنولوجي السريع ومحو كل آثار الحياة البدائية، فإن ذكريات درب الملايات محفورة في ذاكرة الأجيال، وما زلت كلما مررت بالقرب من ذلك الطريق أتذكر جيداً كل اللحظات التي عشناها في ذلك الزمان، ومع كل لحظة تعيدني الذكريات إلى الحكايات الدافئة عن الجدات والأمهات في الريف وتلك النية الصافية كصفاء قلوبهن الجميلة، ويعيدني الزمن إلى تلك الحقبة التي كان فيها الماء أغلى من الذهب، وكان الوصول إليه يتطلب عزيمة وصبراً، لا كما نعيشه اليوم عن طريق مشاريع وأنابيب ومضخات فقط.
إننا حين نتأمل الفرق بين الأمس واليوم، لا نأسف على تطور المشاريع والخدمات التي حولت حياتنا إلى أكثر سهولة في التعامل اليومي، ولكننا ننحني أمام تلك الهامات الكبيرة احتراماً لتلك النسوة من نساء القرية، ونرفع لهن أكف الدعاء بحفظ عوائلهن، حيث كان الحلم الأكبر لكل واحدة منهن تكوين أسرة ناجحة… لقد كتبن في حياتهن تاريخاً صامتاً على درب الماء، تاريخاً من التعب والوفاء لا يمكن نسيانه لأنه تاريخ جميل كتب بالشرف وبالطهارة الحقيقية… كتبته نساء القرى والأرياف من خلال حديثهن في ذلك الدرب الترابي بين القرية والنهر، وبين الضحكة والهلهولة، وبين التفكير بفارس الأحلام والأسرار المخفية داخل القلوب.ومع الاغنية الريفية القروية الجميلة التي ترددها احداهن….
( حلفنا ما نغرب ولا ناخذ غريبه… بعد عيني يبو شهاب گضب عجد الخطيبه ) ليردد بعدها الملايات والف هلا وياعيني والف هلا..
نعم، إنها دروب نظيفة حملت معها ذكريات جميلة لأجيال عاشت وقلوبها تحب الجميع، وأسمى أهدافها وغاياتها هو خدمة عوائلهم…