هكذا تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن يكون الوطن أولاً، وأن المسميات الأخرى أمامه صغيرة مهما كبرت، وأن كل الانتماءات تنتهي أمامه، وأن الفوارق الاجتماعية تذوب في حضرته المقدسة التي اكتسبت قدسيتها من دماء الشهداء الذين ضحوا من أجله على مر العصور… فلا طائفة أو فرقة تعلو على رايته الأبية، ولا مصلحة نستطيع أن نقدمها على أمنه وسلامة حدوده، ولا حزب يساوم أمام هيبته، ولا كرسي السلطة يعادل شيئاً أمام اسمه الكبير…
لقد تعلمنا أن الوطن أولاً وأخيراً، وأننا مطالبون بأن نحول كل الكلمات إلى أفعال، وأن تكون الشعارات التزاماً، ومحبة الأوطان تضحية.
اليوم في زماننا هذا امتلأت الساحات بالهتافات تطلقها الوجوه المقنعة، وهنا يطرح السؤال نفسه ونسأله لأنفسنا: هل محبتنا للوطن أغلى من كل شيء؟ أم أنها مجرد سلعة نهتف باسمها وقت الحاجة ثم نرميها في حقيبة المصالح عندما تهدأ العواصف؟؟
إن الوطن ليس مجرد رسم لخارطة ذات حدود، ولا هو قطعة أرض نورثها للأجيال التي تأتي بعدنا، بل هو كيان كبير وعائلة تتقن كل اللغات وتتمسك بكل القوميات وتتبنى كل المناهج الصحيحة. يعيش داخله الجميع كما يعيش الطلاب في المدرسة التي تعلمنا فيها، والبيت الذي أطعمنا وآوانا. إنه وجه الأم حين نعود، وصوت المؤذن في محرابه أثناء ساعات الفجر، وعبق الخبز في تنورنا الطيني في قريتنا القديمة.
لقد تعلمنا في المدارس موضوعًا في مادة الإنشاء بعنوان “عرض كبير” أن الوطن أولاً، وأننا لا ننتظر مكافأة على الولاء له، ولا نقبل أن نقيس الوفاء له بكرسي السلطة أو منصب لأن الكراسي والمناصب زائلة. وتعودنا أن ندافع عنه بشرف، لأننا نؤمن أن الأوطان لا تُبنى بالخطابات، بل بالأيدي التي تزرع، وبالعقول التي تُبدع، وبالقلوب المملوءة بالمحبة.
يجب أن نربي الأجيال القادمة على أن الوطن حين يكون أولاً، لا نقوم بسرقة خزائنه، بل نضيف إليها ضمانًا للمستقبل الصعب. ولا نتآمر على مؤسساته، بل نحصنها. ولا نشكك بقياداته في العلن ثم نتقرب إليها في الخفاء لأن ذلك من علامات المنافقين، وأن نكون صادقين في كل شيء.
ويجب على الجميع أن يعرف أن عندما نضع الوطن أولاً، تتحول أداة وكلام النقد إلى أداة بناءة لا جرافة للهدم. وأن يكون الإعلام نافذة وعي وإدراك وليس منبر تحريض للفتنة بين أبناء الشعب والوطن الواحد. وأن يكون الخلاف السياسي مبنيًا على أساس التنافس الشريف من أجل خدمة الناس وبناء دولة صحيحة وليس من أجل إسقاط بعضنا البعض….
عندما نقول الوطن أولاً، فإن ذلك يعني أن الطفل في الجنوب يتمتع بنفس حقوق الطفل في الشمال، وأن المدرسة في القرى والأرياف لها نفس الأولوية في العاصمة والمدن الأخرى، وأن أمن مدينة الموصل لا يقل أهمية عن أمن مدينة البصرة، وأن دماء الشهداء في محافظة الأنبار هي نفس دماء الشهداء في محافظة كربلاء المقدسة…
عندما نصل إلى الإيمان المطلق بهذه المعادلة، نكون قد بدأنا فعلاً نضع في حساباتنا الحقيقية أن الوطن أولاً…
وعندها يُولد جيل جديد لا يعرف الحقد والكراهية، ولا يحمل السلاح إلا لحماية بلده، ولا يرى في شريكه في وطنه خصماً لأنه مختلف عنه في الدين او المذهب او العرق…
وأخيراً، عندما يكون الوطن أولاً، نكون نحن في المقدمة. لأننا نعرف جيداً أنه لا عزة أو قوة لفرد من دون قوة وعزة الوطن، ولا كرامة لأمة من دون وحدة مبنية على أساس العدل والمساواة.
فليكن شعارنا وهدفنا دوماً الوطن أولاً… وليكن دائماً..