نبي… في حيّ العاطلين

نبي… في حيّ العاطلين

على حين غرّة، ظهر.بسحنةٌ سمراء مجبولة بحرّ الخليج أو شمس الجنوب، قامةٌ أربعينية لا تشبه سنّه ولا زمنه، عينان كأنهما تتأملان غدًا لا يجيء.
رجل غريب الأطوار، دخل الحيّ كما يدخل الضوء شقّ جدار في بيتٍ منسيّ.

لم يكن شاعرًا، ولا خطيبًا، ولا قائدًا حزبيًا يرتدي بزّته أيام المهرجانات فقط.
كان يمتلك شيئًا بسيطًا وعظيمًا:هي الحقيقة.

ظهر في حيّ اسمه “حيّ العاطلين” — حيّ أضاعه الزمن وركنته الحكومات المتعاقبة في زاوية النسيان، حيّ لا تصله قرارات التنمية ولا تحنو عليه نشرات الطقس.
اسمه وحده نذير شؤم: العطلات.
الناس هنا معطّلون عن الحلم، معطّلون عن الاعتراض، معطّلون عن الكرامة.

في هذا الحيّ، كل شيء مؤجّل:
الرواتب مؤجلة، الإصلاحات مؤجلة، الشوارع تنتظر، المدارس تصمت، الأنابيب صدئة، والمستشفيات لا تعالج إلّا الانتظار.
الكرامة؟ مؤجّلة إلى إشعار آخر.

ظهر “النبي” بلا مقدّمات.
كان يمشي كأنه يبحث عن نبضٍ ما زال حيًّا.
يرسم على الجدران كلمات أشبه بالصفعات، يقرأ على الناس أناشيد وعيٍ لا تُطرب، ولا تُنشد في مسارح البلاغة.

كتب على أحد الجدران:

> “من يسرق خبزك لا يحتاج إلى سكين، بل إلى وعد فارغ.”

وتحت عامود الكهرباء، الذي لا يضيء إلا يوم يزورنا مسؤول، كتب:

> “الإنارة ليست في الأعمدة… بل في العقول.”

تكلم عن شبكة الماء التي انقطعت حتى جفّت الحلوق، عن المدرسة التي تُخرج أجيالًا تحفظ ولا تفهم، عن المستشفى الذي لا يداوي، والمسؤول الذي يزورهم في موسم الانتخابات فقط، كما يظهر الهلال ليلة واحدة، ثم يختفي عامًا كاملًا.

لم يُصفّق له أحد، لم تقم له ندوة، لم يُدعَ إلى مائدة مسؤول.
بل اتُّهم بالتشاؤم والفتنة.

قالوا: “مشاغب… يحرّض الناس!”
وقال آخرون: “مجرد مجنون يظن نفسه نبيًا…”
كانوا يتهامسون خلفه:
“يا أخي، إحنا مستورين… لا تثير المتاعب، خاف الله.”

وكان يردّ عليهم:

> “المستور هو الظلم، وليس أنتم…
السكوت لا يعني الرضا، والفتنة ليست في الوعي بل في الجهل الذي ترتضونه.”

بقي يمشي، يكتب، يصرخ أحيانًا، يضحك من الألم.
بعض الأطفال كانوا يقلّدونه في الرسم على الجدران.
أحدهم كتب يومًا:

> “أبي قال: الساكت عن الحق نائم… والنبي أيقظه.”

ثم، في ليلة ظلماء، بلا ضجيج، بلا وداع، خرج ولم يعد.
قيل إنه سافر، وقيل إنهم اختطفوه، وقيل… اختنق من فرط الحقيقة.

لكن الجدران بقيت تتكلم.
كلما هبّ الغبار، ظهر خطٌ باهت من كلماته.
كلما سقط المطر وغرق الشارع، تذكّر الناس صوته وهو يقول:

> “ليس كل من يصمت راضيًا،
وليس كل من يصرخ غاضبًا…
بعضهم يوقظ الحيّ، حتى لو نام العالم كله.”

وهكذا، بقي حيّ العاطلين كما هو:
ينتظر — لا نبيًا جديدًا — بل ماءً صالحًا، وكهرباء لا تقطع وقت الفجر، وشارعًا لا يغرق في أول مطر، ومدرسةً تُعلّم لا تُلقّن.
ينتظر أن يُبعث من فيه حسٌّ واحد، مثل ذاك الذي غاب… لكنه لم يمت.