السؤال الذي يدور في ذهني: لماذا تُختزل ثورة 14 تموز في العراق بشخص عبد الكريم قاسم؟
لماذا يُحمّل رجلٌ واحد كل المجد أو كل الخطيئة، ويُقصى باقي رجال العسكر والسياسة الذين شاركوه في التخطيط والتنفيذ؟
يبدو من المنطقي ــ في السردية التاريخية العراقية ــ أن تُعلّق القصة كلها على عنق الرجل الذي أُعدم بعد ساعات من استسلامه. فهل يمكننا أن نراه، في النتيجة، “الزعيم الفادي”، مسيحًا جديدًا؟
إن توزيع أخطاء أو حسنات 14 تموز، سواء اعتبرناها ثورة أو انقلابًا، على جميع اللاعبين السياسيين والعسكريين، يبدو خيارًا أكثر عدالة. ولا يمكن أن نغفل دور الشحن السياسي والإعلامي، الإقليمي والدولي، من قبل مصر عبد الناصر، والخليج، والأردن، والولايات المتحدة، وبالضرورة بريطانيا، في إفشال التجربة الوليدة، بما لها وما عليها.
قسّم عبد الكريم قاسم المجتمع العراقي إلى سماطين:
أرستقراطي، أو ممن خدم الأرستقراطية ومصالحها.
وشعبوي، امتلأ بالطموح للارتقاء طبقيًا، من الفلاحين نحو الطبقة الوسطى.
كما انقسم العراقيون سياسيًا وهوياتيًا:
بين عروبي سُنّي بالضرورة، يرى في العروبة مجدًا يجب استعادته، ولو بشوفينية ماضوية تستحضر إمبراطوريات لم تكن عربية خالصة، ولكن حَكمها العرب.
وبين محليّ قُطري شيعي بالضرورة، يجد هويته في الجغرافيا العراقية قبل الانتماء القومي.
وكردي مساند للثورة، وإن لم يحصل على استقلاله.
وفي خضم ذلك، تراجع الحسّ الديني التقليدي، وبدأت مرجعية النجف، “فاتيكان الشيعة”، تفقد دورها السياسي المباشر، وعزّز ذلك قطيعتها مع عدو العراق التقليدي، إيران الشاهنشاهية حينها. وبذلك فقدت “عقدة السيطرة المذهبية والأيديولوجية” التاريخية، مع أتباع لم يعودوا يرون في المرجع الديني رمزًا يعكس واقعهم المعاش، بينما حلَّ “الزعيم” محلّه.
اتّكلت “النسية الشيعية”، التي بلا جغرافيا سياسية واضحة، على خطاب الدولة المركزية، لكنها لم تجد بعد أدواتها فيها.
وبسبب تصدّره المشهد، تحمّل عبد الكريم قاسم ما يفوق طاقته، خصوصًا مع قلة خبرته السياسية، وافتقاره لتحالفات دائمة. كان الصراع بينه وبين عبد الناصر حادًّا؛ لكن الفارق أن عبد الناصر كان سياسيًا عسكريًا، أما قاسم فكان عسكريًا فقط. لذلك نجا عبد الناصر من محاولات الإطاحة، وأحكم سيطرته حتى بعد موته، أما قاسم فسقط سريعًا بعد انقلاب 8 شباط 1963.
المشهد الأخير
يلخّص مشهد النهاية مصير قاسم وتحوّل السياسة في العراق.
قِيَم انقلاب أو ثورة 8 شباط 1963 تختلف جذريًا عن قِيَم 14 تموز 1958.
الزمن تغيّر، الأدوات تغيّرت، والراعي الخفي تغيّر.
فلم تعد الطريقة البريطانية المعروفة، القائمة على نفي الخصوم، فعّالة.
استُبدلت بالطريقة الأمريكية: تصفية دموية فورية، بلا محاكمة، بلا رحمة، بلا تفاوض.
ربما سلّم قاسم نفسه معتقدًا أنه سيُنفى إلى تركيا، أو يُعيّن في منصب شرفي في إحدى سفارات العراق، وربما كان ينتظر محاكمة مسرحية مطوّلة يستعرض خلالها إنجازاته، ويترافع عن تجربته السياسية والاجتماعية.
لكن هذا لم يحدث، وكانت النهاية دراماتيكية: الإعدام بالرصاص للزعيم وقادته، في استوديو الموسيقى في الإذاعة العراقية، بتاريخ 9 شباط / فبراير 1963، أي بعد يومٍ واحد فقط من بدء الانقلاب.
وبما أن خدمة البث المباشر لم تكن متاحة تقنيًا في ذلك الزمن، بثّ الانقلابيون صور الجثث المُعدَمة، وهم يركلونها أو يبصقون عليها.السياسة والقيم والزمن كلها متحولات بلا ثوابت .
انتهت في تلك اللحظة أخلاقيات الشرف العسكري، وساد العراق جوّ من التصفيات الدموية، في “حمّامات” لا تستند إلى أي قيم مجتمعية أو دينية، تشدد على احترام جثث الخصوم.
لكن المفارقة الكبرى أن الشاب الذي حاول اغتياله عام 1959 مع مجموعة ممولة من مصر عبد الناصر، والذي قرّر الزعيم قاسم العفو عنه حينها ولكنه هرب ووصل مصر، هذا الشاب سيتمتع بمحاكمة مطولة مسجلة ومذاعة لشهور ومحامون من كل الجنسيات ودعم عربي معنوي هذا الشاب الجرئ المندفع بقيم قبلية خشنة و الذي سيحكم العراق بعده، ويصير اسمه مرادفًا للدولة العراقية الحديثة لعقود.
ذلك الشاب هو: صدام حسين.