14 يوليو، 2025 10:01 م

الزعيم وصبرية.. موعد عند القمر

الزعيم وصبرية.. موعد عند القمر

بمناسبة ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة
14 تموز 2025
عندما كان الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم برتبة نقيب في الفوج التابع للواء الرابع عشر في موقع الناصرية،
انتشرت بين الناس قصة الزعيم وعشقه لإحدى بنات الناصرية، بائعة سمك في سوق الناصرية (سوق الصفاة، والواقع حالياً في نهاية شارع الجمعة أمام نهر الفرات).
لقد كان هذا الحب من زاويةٍ ما كسرًا للقوانين العسكرية، لذا تم نقله إلى وحدة عسكرية أخرى.
كان الزمن في بداية الخمسينيات، ولا تزال هذه القصة الغرامية تُروى عند كبار السن من أهل الناصرية، وقد رواها لي (كامل محمد علي النجم الحسيناوي – أبو رغد).
في حصن الحامية العسكرية،
عندما يسدل الليل أستاره، ويلقي الكرى رداءه على وجه الأرض،
يقف النقيب عبد الكريم أمام شباك غرفته الحزين ليطالع نهر الفرات الذي لا ينام..
ففي أمواجه يسكب المحبّون آهاتهم،
وعلى جرفيه يُهرِق المستوحشون ندى دموعهم،
وعلى رقص نسائمه عزاء للروح الوادعة،
وفي تهاليل مشاحيفه سلوى لعاشق مثله، مستهام بحب فتاة ريفية جنوبية.
يمدُّ النظر بعيدًا إلى “بنكلة السمك”،
حيث طيف بائعة السمك “صبريّة” بوجهها السومري،
تفترش شاطئ الفرات وتغترف براحتيها ماءه العذب، فيلامس شفتيها القرمزيتين،
فيتناجيان كطيفَي عاشقين، ويمتزجان كالفضة بالذهب.
تذكّر النقيب عبد الكريم أنه مرّ يومًا من أمامها، وكانت تفترش الأرض،
حين التقت عيناهما.. وخفق قلبيهما.. فاحمرّت وجنتا صبريّة واستحال لونهما إلى قرصَي شمس،
وشبّ في قلب قاسم ضرام حب جديد،
ورأى طيف “شبعاد” يحوم فوق سوق الناصرية:
ــ كم كيلو البني، يبنيّه؟
ــ ابلاش.. لبو خليل.
لصوت صبريّة وقع السحر على قلبه المرهف، قلب ابن الصويرة،
وهو يُصغي لتغريد بلبل من الناصرية، أو حفيف غصن تدلّى على شاطئ الفرات،
أو خرير جدولٍ يخامره نرجس العيون وورد الخدود وشقيق الفم.
كانت صبريّة حورية بجسد امرأة جنوبية،
أو ملاكًا سماويًّا نزل من الملكوت ليبيع السمك.
سألها النقيب:
ــ آنِتِ شسِمچ؟
ردّت بخجل:
ــ يَعَليّش تسأل!!!
وجم عبد الكريم، وتطلع في وجه اكتنزته مسوح البراءة والعفوية.
قالت:
ــ يـا.. لا تزعل.. اسمي صبريّة.
وسألته:
ــ وإنت شسمك؟
قال:
ــ اسمي النقيب عبد الكريم قاسم الزبيدي.
ردّت بدهشة:
ــ يا معاناته… اسمك أكرَيّم!
فبدت صفّان من جُمانٍ منضود في استدارة فمها القرمزي،
وتدفق شلال من الدماء إلى تفّاحتي الخدود.. وضحك الجميع..
وانتشوا بحلاوة اللقيا، وتهللوا بنور الأمل..
حينها عَشّش الحب في الأيك الخاوي،
وأنبتت على الضلوع الحانية زنابق وزنابق،
وأوردت على القلب الخالي أزاهير وأزاهير.
من أجل عيني صبريّة،
رافق السُهد ليالي أكرَيّم، وتوادع السهر جوانح روحه العاشقة،
وعزفت قيثارة شجونه لحن الحب الحزين.
تكررت اللقيا وتجددت المواعيد،
وخَطّ القدر في سفر عمره مولد حب جديد،
حب لا يعرف الحدود، ولا يجيد وصف المناصب،
حب عُذريّ جمع قلبَي فارس من الصويرة وريفية من الناصرية.
تهامس أهالي الناصرية بحكاية الحب الجديد: “حب النقيب أكرَيّم وصبريّة”.
لكنها لم ترق لخفافيش الظلام، ممقِتي نور الأمل،
لم ترق لذابحي حمائم الحب الجميل، وسجّاني بلابل الدوح،
وماليءِ دروب الهوى حجرًا وشوكًا،
فأمطروا قراطيسه البيضاء بعشرات النصال المسمومة،
ومزّقوا لوحة الوفاء بعشرات الخناجر الصدئة،
فأراق الكيد عبير قصتهما، ووَأدَ الحقد سفر حبهما.
خَيّم الليل بجناحيه فوق قلب النقيب عبد الكريم،
وألبس الفراقُ قلبَه ثوبًا أسود داكنًا،
وتأوه صدره بحسرات كسيرة،
وهو يستمع لتقريع آمر موقع الناصرية،
عن مافعله في صباحات “البنكلة”،
خاتمًا القول بأنه لن يرى طيف “أم السمك” مرة أخرى،
وما عليه إلا أن يستلم أمر نقله إلى موقع آخر في بغداد.. ويرحل!
حينها أسرَّ لابن خالته (كريم الجدّة) بأنه لم يتزوج أبدًا بعد حب صبريّة.
مرت الأيام، وتعدّت السنون، وصبريّة تغفو وتنام على صدى الذكرى الحزينة،
تذرف دموعًا كدموع الثكالى،
وتناجي في طيوفها شخص “أكرَيّم”،
وتنظر في وحدتها إلى وجهه الباسم،
وإن كان بعيدًا، فهو رفيق نفسها وأنيس لوعتها،
متجملة بالصبر، ومتزودة بالأمل،
متيقنة من إرادة الرب، بأن يجمع قلبيهما في عليائه،
على أرائك فردوسه، في ملكوت رحمته وواسع سماواته.
وعلى سطوح بيوتات سوق الصفاة في الناصرية،
تجمّع الأهالي على سطوح منازل منطقة “الشرقية” الغارقة في الظلام،
في ليلة صيفية، هبّت فيها نسائم الجنوب،
وغازلت عيونهم جدائل القمر، وأحداقهم صوب النور المستنير، وهم يتنادون:
“عبد الكريم كل القلوب تهواك
عبد الكريم ربّ العباد يرعاك”
وتنادت الحناجر المتعبة، وهي تلهج بخيالها البسيط،
وحبها العفوي الكبير، مشرئبّة حيث النور المتعالي:
“ذاك الزعيم صورته.. بالكمر!
ذاك الزعيم صورته بالكمر!”
انتفضت صبريّة لمسمع النداء،
وأعادت تلك الأيام الجميلة إلى ذاكرتها،
وتذكرت أن بينهما موعدًا لم يتم،
طوته كفّ القدر، وأُسدِل عليه ستار النسيان،
وتمنت أن تلتقي بحبيبها “أكرَيّم”…
حتى… ولو… عند القمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات