الاحتلال الناعم ونهب الثروات بواجهات محلية .. العراق نموذجًا

الاحتلال الناعم ونهب الثروات بواجهات محلية .. العراق نموذجًا

لم تعد القوى الاستعمارية المعاصرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بحاجة إلى أساطيل محتلة وجيوش مدججة تسير في شوارع بغداد أو كابول أو طرابلس… ؛  فزمن الاحتلال المباشر الذي كان يثير الغضب الشعبي والمقاومة المسلحة، ويفضح المشاريع الإمبريالية أمام العالم، قد ولّى، ليحلّ محله احتلال أكثر دهاءً وفاعلية : إنه الاحتلال غير المباشر، و القائم على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والإعلامية عبر وكلاء محليين يرتدون عباءات وطنية، ويؤدون أدوارهم بدقة ضمن سيناريوهات مرسومة من خلف البحار… .

إن الحديث عن “أخلاق الغرب والانسانية الغربية ” في السياسة الدولية ضربٌ من السذاجة أو التضليل… ؛  فأميركا وبريطانيا وفرنسا لا تُحركها نزعة إنسانية ولا دواعٍ أخلاقية، بل تتحكم بها مصالح استراتيجية، وأهداف جيوبوليتيكية، وعقيدة استعمارية متجددة… ؛  فحينما تدخلت هذه القوى في العراق أو أفغانستان أو ليبيا، لم تكن تسعى إلى “تحرير الشعوب” أو “نشر الديمقراطية” كما زعمت، بل لهدف واحد واضح: الهيمنة والسيطرة ونهب الموارد والثروات الوطنية .

إن مشهد السياسيين الغربيين وهم يبدون حزنًا على حيوان نافق، مقابل تجاهلهم الكامل لآلاف الأطفال الجوعى  والقتلى في اليمن أو غزة ، ليس مجرد مفارقة مؤلمة، بل هو جوهر العقل الاستكباري الغربي، الذي لا يرى في شعوب العالم الثالث سوى أرقامًا هامشية لا تساوي شيئًا في ميزان المصالح.

ويُعد الرئيس الأميركي  دونالد ترامب النموذج الأوضح لتلك العقلية… ؛  فهو لم يتردد في إهانة الشعوب الإفريقية , واللاجئين والمهاجرين الى امريكا، وتهديد دول الخليج صراحة بدفع الجزية مقابل الحماية، بل وصل به الأمر إلى المطالبة بعائدات الحج، بحسب تقارير صحفية… ؛ و هذا الاستعلاء ليس موقفًا شخصيًا، بل هو امتداد لمنظومة سياسية غربية قائمة على الابتزاز والسيطرة والنهب الممنهج.

ولأن هذه القوى تدرك أن الاحتلال المباشر صار مكلفًا وغير مقبول دوليًا وشعبيًا، فقد عمدت إلى صناعة أنظمة عميلة، وحكومات وظيفية، وطبقات سياسية فاسدة تُدار بالريموت من واشنطن أو لندن … ؛ و هذه الأنظمة تُمنح السلطة شكليًا، ولكنها عمليًا لا تملك من أمرها شيئًا… ؛ اذ  تُوقّع على اتفاقيات مجحفة، وتمنح الامتيازات للاستثمار الأجنبي دون دراسات وطنية، وتُجيّر كل قراراتها بما يخدم مصالح المحتل والمستكبر، تحت لافتة “الشراكة الدولية” أو “إعادة الإعمار او الاستثمار “.

وفي العراق تحديدًا، منذ تأسيس الدولة عام 1921 وحتى اليوم، تغيّر شكل الحكم عشرات المرات: من الانتداب البريطاني إلى الملكية، ومن الجمهورية إلى “الديمقراطية”، لكن جوهر النظام لم يتغير، لأن المخرج والكاتب والممول واحد: الاستعمار الغربي… ؛ و كل ما تغيّر هو الوجوه واليافطات والشعارات فحسب .

وما يؤكد هذه الحقيقة أن أميركا طالما تباهت بقدراتها الاستخبارية الخارقة، وقدرتها على ملاحقة “الإرهابيين” وقتلهم بطائرات بدون طيار، بل وبتتبع التحويلات المالية في أصغر قرية… ؛ فأمريكا التي تحسب انفاس الشخصيات الوطنية وترصد تحركاتها اليومية وتغتال مجاهدي حركات المقاومة وعناصر الفصائل الاسلامية اينما كانوا وحيثما حلوا … ؛  فهل يُعقل أنها تعجز عن تعقب مليارات الدولارات المنهوبة في العراق؟!

و هل يعقل أنها تعجز عن كشف حسابات الساسة الفاسدين الذين سرقوا البلاد والعباد؟!

وهل يعقل انها لا تستطيع تتبع حركاتهم وتحركاتهم ورصدها ثم اغتيالهم او القاء القبض عليهم ؟!

الجواب واضح: هي لا تريد ذلك ، لأن هؤلاء الفاسدين ليسوا سوى أدوات في يدها.

فالفساد في العراق ليس ظاهرة محلية فحسب، بل هو ملف أميركي-غربي بامتياز، تُديره واشنطن حسب الحاجة… ؛ اذ تبتز به السياسيين، وتُعاقب به الخارجين عن الطاعة، وتُبرئ به نفسها من جرائمها عبر تحميل أدواتها المحليين المسؤولية… ؛  فحينما تسرق الطبقة السياسية، تكون واشنطن قد سرقت مرتين: مرة عبر الأموال التي تُحوّل إلى مصارفها، ومرة عبر تحميل المسؤولية للعراقيين أنفسهم، ما يبرر لها مزيدًا من التدخل والوصاية… ؛ بل وادعاء الشرف والنزاهة ومحاربة الفاسدين المحليين زورا وتدليسا و ادعاءً وتمثيلا .

إن امتناع أميركا عن محاسبة الفاسدين، رغم معرفتها الدقيقة بتحركاتهم، يدل على الآتي:

أنها المستفيد الأكبر من هذا الفساد المنظم.

أن أدواتها السياسية مجرد دمى تُحركها وفق سيناريو محكم.

أن ملف الفساد هو وسيلة للإخضاع والسيطرة، لا أداة للإصلاح.

أنها لا تريد طبقة سياسية وطنية مستقلة تُخرج العراق من هيمنتها.

وما دام الاحتلال الناعم مستمرًا، وما دامت قرارات العراق تُتخذ خارج حدوده، وما دام الفاسد محميًا لأنه يؤدي دورًا مطلوبًا، فلن تتحقق أي نهضة حقيقية، ولن يخرج العراق من نفقه المظلم.

إن الخلاص يبدأ من فهم المعادلة الاستعمارية الجديدة: من لم يُحتل عسكريًا، يُحتل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا… ؛  ومن لم تُقصف مدنه بالدبابات، تُقصف عقوله بالإعلام والاتفاقيات والفساد… ؛  والاحتلال الحديث لا يزرع علمًا على القصر الجمهوري، بل يزرع وهم السيادة في عقولنا، بينما يسحب كل أوراق القرار من أيدينا.

الخاتمة:

إن استمرار معاناة دول مثل العراق يعكس نجاح آليات الهيمنة الجديدة… ؛  فبعد أن أصبحت المقاومة المسلحة للاحتلال المباشر ممكنة، صار الاستعمار يختبئ وراء واجهات محلية ويستخدم الفساد والتبعية الاقتصادية كأدوات لإدامة سيطرته… ؛  إن مواجهة هذا النموذج تتطلب وعياً عميقاً بآلياته، وإرادة وطنية صلبة قادرة على تحرير القرار السياسي والاقتصادي من براثن الاستكبار المُعاصر الذي يرتدي أقنعة متعددة، ويختبئ غالباً خلف شعارات زائفة… ؛ والتحرر الحقيقي يبدأ بكشف هذه الآليات وقطع حبال التحكم الخفية التي تسلب إرادة الشعوب وتصادر ثرواتها تحت مسميات متجددة… ؛ فما لم يُدرَك الشعب العراقي أن ما يعانيه من فشل سياسي وفساد مالي وتخبط اقتصادي، ليس مجرد إخفاق محلي، بل هو نتيجة احتلال ناعم مُحكم التخطيط، ستبقى أي حلول جزئية عاجزة عن التغيير… ؛ وهذه “الدمى السياسية – البعض – ” التي تحكم العراق اليوم، ليست أكثر من أدوات تُحرّكها قوى خارجية، وتُسند لها مهمة إفراغ الدولة من معناها، وتثبيت الاحتلال الناعم… ؛ فالخلاص يبدأ من الاعتراف بأن الديمقراطية المستوردة ليست وطنية  خالصة وحقيقية ونزيهة ، وأن السيادة لا تُشترى من واشنطن، وأن الفاسد ليس سوى واجهة لمشروع أعمق وأكثر خطورة: مشروع الهيمنة الغربية الممتدة عبر أدوات محلية… ؛ حتى السياسي الوطني والمسؤول النزيه يخضع للابتزاز والتهديد الامريكي …!!

أحدث المقالات

أحدث المقالات