أنمار كامل حسين ريشة الشعر وصوت الوجع الجميل

أنمار كامل حسين ريشة الشعر وصوت الوجع الجميل

في مدينة الكاظمية، حيث تلتقي المآذن برفيف القصائد، وُلد الشاعر أنمار كامل حسين يوم 22 أيلول من عام 1985، في بيتٍ لم يكن الشعر فيه غريبًا، ولا الفن زائرًا مؤقتًا، بل كانا جزءًا من هوية الأسرة وميراثها. فالأم شاعرة لها حضورها المتفرّد، والأب فنان تشكيلي خلّف أثره في ذاكرة المعارض العراقية، فكان طبيعيًا أن يولد بينهما شاعر يُشبه المرايا في نقائها، ويكتب بلغة تستعير ألوانها من الريشة، وحرقتها من القلب.

ترعرع أنمار في بغداد، ثم تنقّل مع أسرته إلى الحلة، المدينة التي تألف الشعر كما تألف الفرات، وهناك أكمل دراسته وتخرّج في كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل، من قسم الفنون التشكيلية – فرع الرسم. ولعل دراسته الأكاديمية أسهمت في بناء حسّ بصري خاص يظهر في قصائده، حيث تتعانق الصورة الشعرية مع الرؤية التشكيلية، فلا تكاد تفرّق بين سطر شعري وخط لوني منساب.

دخل أنمار عالم الشعر بهدوء الواثق، لكنه ما لبث أن فرض حضوره في الساحة الأدبية، لا بالتكلف أو الادعاء، بل بما يملكه من طاقة لغوية، وحساسية مرهفة، وتجريب صادق في اللغة والمعنى. أصدر مجموعته الشعرية الأولى “وأُصفّف الموت في أهدابي”، وهي عنوان يكشف من الوهلة الأولى عن شاعر يكتب من تخوم الألم، ويُخضع المفردة لنبضه الداخلي، لا لمجرّد الموسيقى أو الصناعة. وقد نُشرت قصائده في أبرز الصحف والمجلات العراقية والعربية، بل وتُرجمت إلى لغات عدّة، وهو ما يعكس عالميّة النبرة التي يحملها، وإن بقيت الجذور مزروعة في تربة الوطن.

النقّاد الذين تناولوا تجربته لم يكونوا مجاملين أو عابرين، بل وجدوا في شعره ما يستحق التوقّف. كتب عنه جمال جاسم أمين وزهير الجبوري وطالب عمران المعموري وشكر حاجم الصالحي وعبد الحسين الشيخ علي وغيرهم، وكلّهم أشاروا إلى نضج تجربته، وتفرّد لغته، وقدرته على التوليف بين الإرث الشعري والتجريب الحداثي. بعضهم ذهب إلى أن أنمار يمثّل أحد أبرز أصوات الجيل الشعري الجديد في العراق، جيلٍ يكتب وسط الخراب لكنه لا يسقط فيه، بل يصوغ من الرماد حياةً أخرى ممكنة.

أنمار ليس شاعر قصيدة فحسب، بل هو فاعل ثقافي حاضر، إذ يشغل موقع سكرتير تحرير مجلة متون التي يصدرها اتحاد الأدباء في بابل، وهو نائب رئيس المنتدى الأدبي الإبداعي، وعضو في اتحاد الأدباء والكتاب ونقابة الفنانين العراقيين، كما شارك في المهرجانات الكبرى: المربد، الحبوبي، الجواهري، بابل الدولي، وغيرها من الملتقيات التي احتفت بصوته المتفرّد.

وهكذا يبدو شعر أنمار كامل حسين، رحلة متواصلة إلى الداخل، حيث الحزن والدهشة والتمرد والخسارات الجميلة. لا يكتب ليواسي، بل ليكسر الأوهام، ولا يختبئ وراء الصور، بل يعرّي الحروف من الزيف، ويمنحها نبرة صدق نادرة.

إنه شاعر يسير بثبات، لا يسابق الزمن لكنه لا يتأخر عنه، يُشبه السنبلة التي تنحني لا لأنها ضعيفة، بل لأنها مثقلة بالنضج.

  قصيدته “خثرة في عروق الغياب” نصّ شعري مكتنز بالصور الكثيفة، والمجازات الممتدة، والهمّ الوجودي الذي يُشكّل خيطًا شفافًا يربط بين الذاتي والعام، بين الحبيبة والوطن، بين الفقد والخذلان، في مناخ شعريّ ينوس بين الحسيّ والميتافيزيقي، بين الحنين والمأساة.

ومنذ سطرها الأول، “يتدفق وجهكِ مثل نعاس يدهن حنجرة الليل”، يفتح الشاعر بابًا لصورة مركبة، فيها تماهٍ بين الجسد والطبيعة، بين الوجه والنعاس والليل. هذا التشابك يكشف عن خيالٍ شعريّ يجترح الصور لا ليصفها بل ليعيد تشكيلها، في استعارات تتداخل فيها الحواس: البصر، الصوت، اللمس.

 والقصيدة ليست قصيدة غزل تقليدية، بل تذهب بالحبيبة إلى مقام الأسطورة، فهي “خرافة إغريقية لم ينجُ منها أحد”، مما يُحمّل العلاقة بعدها التراجيدي. لكن الفقد هنا لا يتعلّق بها وحدها، بل يتسع ليشمل الذات والذاكرة والوجود والوطن، حتى يتحول الغياب إلى خثرة، إلى علّة تتجلّى في “عروق الغياب“.

  في ثلثها الأخير، تنقلب القصيدة من الحديث عن الحبيبة إلى خطاب وطني ساخر وأليم في آن، حيث تصبح النهاية تصويرًا مروّعًا لـ”الوطن الذي يخون”، فـ”يُبصق أبناءه صعاليك على أرصفة الغربة مثل أعقاب السكائر”. وهنا نرى أن الحبيبة ليست فقط امرأة، بل قد تكون رمزًا لوطنٍ مفقود، أو حُلُمٍ مسروق.

أما لغتها فهي مشحونة بالتوتر، والتراكيب تميل إلى التفصيل والتكثيف معًا. هناك ميل إلى الجُمل الطويلة، ذات النَفَس العالي، كما في: من يطارد عتمةَ هذا الليل الحالكِ بسلاحٍ أبيضَ؟ وهو ينحرُ عُنقَ الضوءِ…” وهذا البناء يولّد لدى القارئ شعورًا بالتدفق والانفعال، وكأن الشاعر لا يكتب بل ينزف.

وتنتهي قصيدته بواحدة من أقسى الصور: “فالأوطان تخون أيضاً يا حبيبتي… مثل أعقاب السكائر“. هنا تبلغ المفارقة ذروتها، إذ يختلط الحنين بالمرارة، ويظهر الشاعر كمن يمزج الرثاء بالسخرية، والحب بالخذلان.

والقصيدة نصّ وجودي مغلّف بثوب العاطفة، يبدأ من الحب وينتهي في الخيانة الكبرى، في انكسار الإنسان في حضرة الحب والوطن والذاكرة. وهي تقدم تجربة شعرية ناضجة، فيها عمق وجداني، واشتغال جمالي على اللغة، وتكثيف دلالي يجعل النص قابلًا لقراءات متعددة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات