في مدينة الحلة، حيث يمتزج عبق التاريخ بوهج الحاضر، وُلدت الدكتورة إنصاف سلمان الجبوري عام 1973 لتصبح صوتٌ نسائيّ عميق حمل لواء الفكر والنقد بثقة واقتدار، وخطّت سيرتها بالحبر والعزيمة، مزدهرةً في فضاء الأدب العربي، وراسخةً في مدارات الفكر الثقافي والنقدي.
تلقت دراستها الأولى في مدينتها الأم، ثم مضت بخطى واثقة إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، حيث حصلت على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية عام 1995، لتبدأ رحلة أكاديمية وروحية أكثر عمقًا، اتجهت فيها نحو جامعة بابل، فنالت فيها درجة الماجستير عام 2006، ثم الدكتوراه في فلسفة اللغة العربية-الأدب والدراسات الثقافية عام 2013، لتحصل بعدها على درجة الأستاذية عام 2020، متوجةً سنوات من الجهد والنبوغ.
في كتابها الأول “مقدمة افتتاح القصيدة العربية”، أعادت الدكتورة إنصاف قراءة الموروث الشعري برؤية معاصرة، كاشفةً عن أبعاد رمزية وتكوينية كانت في طي النسيان أو محجوبة بالرؤية المدرسية التقليدية. وقد رأى النقاد أن هذا العمل يشكل حلقة وصل بين التراث والحداثة، وأن الكاتبة قد مارست فيه تفكيكًا واعيًا لبنية القصيدة الجاهلية، متتبعةً جذورها النفسية والثقافية، لا فقط الشعرية.
أما عملها الثاني “الأنوثة والذكورة في المؤسسة اللغوية”، فقد أثار اهتمامًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والثقافية، لجرأته في مناقشة الخطاب اللغوي من زاوية جندرية ونقدية ثقافية. الكتاب وُصف بأنه نقلة نوعية في حقل الدراسات النسوية في العراق، وقد أشار بعض النقاد إلى أن الجبوري لا تكتب من موقع المدافعة عن المرأة، بل من موقع فاحصة لبُنى السلطة داخل اللغة نفسها.
لم تكتفِ الجبوري بالبحث والكتابة، بل واصلت نشاطها المهني والثقافي في الميدان، حيث تعمل أستاذة في جامعة بابل، وتشغل منصب مديرة تحرير مجلة الأديب الثقافية، وقد انضمت إلى اتحاد الأدباء والكتّاب في بابل عام 2020، مؤكدة حضورها في فضاء المؤسسات الأدبية والفكرية.
شاركت في مؤتمرات ومهرجانات دولية ومحلية، وقد نالت درع الإبداع والتميز من مؤسسة الإبداع العربي، إلى جانب عدد من الشهادات التقديرية من جهات ثقافية وأكاديمية. كما نُشرت أعمالها في مجلات علمية وأدبية مرموقة داخل العراق وخارجه، من بينها: مجلة الأديب الثقافية (بغداد)، مجلة المرتقى (الجزائر)، مجلة المؤتمر العالمي للغة العربية (الإمارات)، فضلًا عن مجلات جامعات بابل والموصل وبيت الحكمة.
ولعل من أبرز ما كُتب عنها بحث نُشر في مجلة التربية للعلوم الإنسانية – جامعة الموصل، بعنوان “شعرية المقدمة في كتاب مدلولات رموز مقدمة القصيدة في العصر الجاهلي”، حيث تناول الباحث أسلوبها التحليلي وإسهامها في تجديد أدوات القراءة النقدية للنصوص التراثية.
إن إنصاف سلمان الجبوري ليست مجرّد ناقدة أكاديمية، بل هي صوت فكريّ يتمرّد على السائد، ويشق لنفسه طريقًا بين تيارات متعددة، دون أن يفقد بوصلته الثقافية أو حسه الأنثوي العميق. تراها تقرأ اللغة لا كوسيلة بل كـ”مؤسسة” – كما تقول في أحد أبحاثها – مؤسسة تؤسس للسلطة، وتعيد إنتاجها، وتحاورها من الداخل.
ومن يقرأ أعمال الجبوري يجد فيها تمازجًا بين الدقة العلمية وحرارة الانفعال الفكري، بين الأصالة والترميز، بين الصوت الفردي والهمّ الجمعي. فهي لا تعيد إنتاج المعرفة، بل تُعيد تشكيلها من خلال أسئلة جديدة، ونزعة نقدية لا تخاف الاصطدام بالتقاليد.
لقد رسخت مكانتها كواحدة من أبرز الأسماء النسوية في النقد الثقافي العراقي المعاصر، ويكاد يُجمع النقاد على أن أعمالها تنتمي إلى جيلٍ جديد يسعى إلى مساءلة البنى المعرفية، وأنها تمثل جسرًا معرفيًا مهمًا بين الأكاديمية والانخراط في الشأن الثقافي العام.
أخيرا هي ليست مجرد اسم أكاديمي في قائمة الباحثين، بل حضور فكري، وتألق نسوي، وراية عالية في ميدان النقد الثقافي. أعمالها تفتح الأفق أمام أجيال جديدة من الباحثات والباحثين، لتخوض في دهاليز اللغة وتاريخها، وفي مكامن السلطة داخل النص، حيث لا يكون الحرف أداة تعبير فحسب، بل ساحة اشتباك فكري وجمالي مستمر.