خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحديث عن الطقوس الدينية في الحضارة اليونانية وعن التضحية بالبشر، والتي تلاشت وحل محلها التضحية بالحيوان. وذلك في الحلقة الرابعة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الموسيقي والدين..
يستأنف الكتاب الحكي عن الطقوس الدينية في الحضارة اليونانية: “وكانت الموسيقى عنصرا أساسيا لا غنى عنه في الاحتفال كله لأن الدين يشق على النفس من غير الموسيقى، والموسيقى تنتج الدين كما ينتج الدين الموسيقى. ومن الهيكل وأناشيد الاحتفالات؛ نشأ الشعر، ونشأت القصائد التي ازدانت بها في الأيام الأخيرة عقائد أركلوكس القوية البذيئة، وعواطف سافو الثائرة المستهترة، وأشعار أنكريون الرقيقة.
وإذا ما وصل العابدون إلى المذبح وكان موضعه عادة أمام الهيكل عملوا على اتقاء غضب الله أو كسب معونته بالتضحيات والصلوات. وكان في وسعهم أفرادا أن يقربوا إليه كل ما له قيمة لا يكاد يستثنى من ذلك شيء قط: تماثيل، أو نقوشا، أو أثاثا، أو أسلحة، أو آنية، أو مناضد، أو ثيابا، أو فخارا؛ فإذا لم يستطع الإله أن يستخدم هذه القرابين استخدمها الكهنة”.
تضحية..
ويواصل الكتاب: “أما الجيوش فقد كان في وسعها أن تهب الإله جزءا من غنائمها، كما فعل جنود أكسنوفون العشرة الآلاف في أثناء ارتدادهم. وكان في مقدور الجماعات أن تهبه ثمار الحقول أو الكروم أو الأشجار؛ أو حيوانا يشتهي الإله طعمه وهو الكثير الحدوث؛ وعند مسيس الحاجة كان يضحى بالآدميين أنفسهم، فقد ضحى أجمنون مثلا بإفجينيا كي تهب الريح؛ وذبح أخيل اثني عشر من شباب طروادة على كومة حريق بتركلوس. وكان الضحايا الآدمية يُقذف بهم من فوق صخور قبرص ولوكاس استرضاء لأبلو، وآخرون يهدون إلى ديونيسس في طشيوز وتندوس؛ ويقال أن ثمستكليز ضحى ببعض أسرى الفرس يوم سلاميس؛ وكان الإسبارطيون يحتفلون بعيد أرتميس أورثيا بجلد بعض الشبان عند مذبحها جلدا كان يدوم في بعض الأحيان حتى يقضى على المجلودين.
وظل زيوس في أركاديا يتقبل الضحايا البشرية حتى القرن الثاني بعد الميلاد. وكان إذا انتشر الوباء في مساليا جيء بمواطن فقير وأطعم من بيت المال، وألبس الثياب الكهنوتية، وزُين بالأغصان المقدسة، وألقي من فوق صخرة ومن حوله يدعون أن يكفر بعقابه هذا عن سيئات مواطنيه. وكان من عادة أهل أثينة إذا داهمهم القحط، أو الطاعون، أو غيرهما من الأزمات أن يقدموا للإله، إما حقيقي وإما تمثيلا، ضحية بشرية واحدة أو أكثر من واحدة تطهيرا للمدينة؛ وكان يحدث مثل هذا في كل عام في عيد الثارجليا.
وقد خففت هذه التضحيات البشرية على مر الزمن بأن قصر الضحايا على المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام؛ وكانوا فوق هذا يخدرون بالخمور، ثم اُستعيض عنهم آخر الأمر بالحيوانات. ولما أن رأى بلبيداس القائد البؤوتي في الليلة السابقة لمعركة لوكترا 371 ق. م حلما ظن على أثره أنه يطلب إليهِ تضحية بشرية على المذبح تكون ثمنا للنصر، نصحه بعض مشيريهِ أن يلبي الطلب، وعارضه البعض الآخر وقالوا له: “إن هذا العمل الهمجي المجرد من كل معاني التقى والصلاح لا يمكن أن ترضى بهِ الكائنات العليا أيا كانت؛ وإن الجبابرة والمردة ليسوا هم حكام الأرض، بل حاكمها هو أبو الآلهة والخلق عامة، وإن من السخف أن يتصور الإنسان أربابا وقوى عليا يسرها التقتيل والتضحية بالآدميين””.
التضحية بالحيوان..
وعن التخلي عن التضحية بالبشر بتابع الكتاب: “وإذن فقد كانت التضحية بالحيوان خطوة كبرى في تطور الحضارة وكانت الحيوانات التي سبقت غيرها في هذا التطور في بلاد اليونان هي الثيران والضأن والخنازير؛ فكانت الجيوش المتحاربة تقدم قبل المعركة من الضحايا ما يتناسب مع رغبتها في النصر؛ وكان مكان انعقاد أية جمعية يطهر قبل انعقادها بالتضحية بخنزير. غير أن تقوى الناس لم تكن تقوى على طبيعتهم إذا حز بهم أمر خطير، ولم يكن يصل من التضحية إلى الإله إلا عظامها وقليل من لحمها ملفوف بالدهن، أم ما بقي منها فكان يترك للكهنة وللعابدين. وكان اليونان يبررون عملهم وهذا بقولهم إن بروميثيوس في عصر الجبابرة قد لف ما يصلح للأكل من جسم الضحية في جلدها، ولف عظامها بالدهن وطلب إلى زيوس أن يختار ما يفضله منها، وإن زيوس اختار الدهن “بكلتا يديه”.
نعم إن زيوس قد استشاط غضبا حين رأى أنه قد خدع؛ ولكنه كان قد أتم الاختيار وكان عليه أن يرضى به ويصبر عليه إلى أبد الدهر. ولم تكن الضحية تقدم كلها لحمها وشحمها إلا للآلهة الأرضية، وكان الحيوان كله في هذه الحال يحرق في محرقة عامة حتى يصير رمادا؛ ذلك أن آلهة الأرض السفلى كان يخشى بأسها أكثر مما يخشى بأس الآلهة الأولمبية. ولم تكن وجبة عامة تعقب التضحية للإله الأرضي، لأن هذا قد يغري الإله بالخروج والاشتراك في الوليمة.
أما بعد التضحية للآلهة الأولمبية فقد كان العباد يأتون على الضحية كلها، ولم يكونوا يفعلون هذا خوفا من الإله وتكفيرا عن ذنوبهم، بل كانوا يفعلونه لأن من دواعي سرورهم أن يشتركوا في الطعام مع الإله، ويرجون أن تكون الصيغ السحرية التي ينطقون بها وقت الطعام قد نفثت في الضحية حياة الإله وقوته، وأن هاتين الحياة والقوة ستنتقلان بطريقة خفية إلى الآكلين معه”.
الخمر..
وعن استخدام الخمر في الطقوس الدينية يكمل الكتاب: “وكذلك كان الخمر يصب فوق الضحية، ويصب بعدئذ في كؤوس العابدين، فكأنهم بهذا كانوا يشربون مع الآلهة. وكانت فكرة الاشتراك المقدس في الوجبة الدينية هي الرابطة التي تربط هيئات الإخوان التي كان كثير من أصحاب الحرف والهيئات الاجتماعية يؤلفونها في أثينة.
ولقد ظلت التضحية بالحيوانات منتشرة في جميع أنحاء بلاد اليونان حتى قضت عليها المسيحية، واستُبدلت بها عن حكمة التضحية الروحية والرمزية المعروفة بالقداس. وأصبحت الصلاة أيضا إلى حد ما بديلا من التضحية حتى في العصور الوثنية. وكان استبدال تسبيحات الحمد بالقرابين الدموية إصلاحا يشهد بالحذق لفاعليه، فبهذه الوسيلة الهينة الرحيمة كان في استطاعة الإنسان وهو المحوط بالمصادفات والمآسي في كل خطواته أن يتآسى ويتقوى باستعانته بما في العالم من قوى خفية”.