إضاءة
نحن من نصنع كلماتنا لهذا لا مناص أن ندرك ما تفعله الكلمات أنها تقدمنا ككيان لمن يقرأها أو يسمعها، كذلك أفعالنا؛ الحياة قيمة تتطلب الإيجابية والإيجابية ليست وهم نفس ولا ترفًا فكريا يوهمك حتى فناء العمر من اجل فاني، وليس من الصواب أيضا النظر لهذا الكلامباستصغار الحياة كقيمة أو انقاص العمل في إعمارها وزيادة العبادات كمناسك وفروض، فالبناء من مهام البشرية والتدين غريزة كما التملك وحب السيادة غريزة، فتقوية غريزة على غريزة ليس بها النجاة وإنما فهم الخلق وأسبابه والحقوق والمعاملات تبعدك عن عبادة الفانيات الزائلات ووضعها كل في محلها كي تسير الحياة وتقوم بواجب عمارة الأرض باستخدام منظومتك العقلية وليس بترك احد أو مجموعة من غرائزك تستعمرك، فالتعبد الغريزي بلا فهم لا ينعكس على رعايتك القيم وحب التملك والسيادة لا يجعلك متمكنا في الحياة فكل هذا كما يرتفع ينخفض، فلا قوة باقية إلا ما فعلت بها ما خلقت له، ولا مال أنت مالكه إلا ما زهدت عنه بعطائك له لمن يحتاجه وبنيت حياة أو أسعفت كرامة ولا صوم وصلاة تنفع وهي ستار أذاك للآخرين.
همسات على حافة الوعي
على حافة وعيك، قف قليلًا وتأمل، الإدراك للحياة ليس بالرفاهية التي تذهب بالعقلية، بل هي ضرورة وجودية، الإدراك بأن كل لحظة تعيشها هي أمانة، وكل نفس تنفسه هو فرصة لترميم الداخل قبل الخارج.
لكن هل يعني هذا أن ننظر للحياة باستصغار؟ أن ننبذها بدعوى الزهد ونتخلى عن العمل بحجة الفناء؟ كلا. فالحياة قيمة عليا، وقد خُلقنا فيها لنعمر لا لنهدم، لنبني لا لننعزل، لنُضيف للحياة جمالًا وقيمة، لا لنكون متفرجين على انقضائها. فحتى التدين، إذا انفصل عن فهم الخلق وأسبابه، قد ينقلب إلى عادة غريزية بلا أثر، كما أن حب التملك والسيادة، إن لم يُضبط بالعقل والقيم، قد يتحول إلى عبودية جديدة يُستعبد فيها الإنسان لأوهام القوة والمال، الم تر أن هذا ما يحصل فعلا.
إننا نخدع أنفسنا حين نظن أن إشباع الغرائز يكفي لإقامة حياة متوازنة، الغريزة بلا وعي تستعبد صاحبها، الإيجابية الحقيقية ليست في إنكار هذه الغرائز، بل في ضبطها وإدراك موضعها الطبيعي في دورة الحياة، بحيث لا تصبح غاية وهي حقيقتها وسيلة للحياة.
المال الذي هو الطريق الممهد إلى الحاجات من اجل البناء والكرامة، لكنه حين يسكن النفس بدل اليد يستعمرها، يصبح سيدًا قاسيًا يستهلك العمر بوهم الرفاهية. القوة كذلك، إن لم توظف لرفع المظلومين فهي كهيجان ثور لا يثنيها إلا أن تعلق لمن يأكل صاحبها، لابد أن ندرك أننا في مهمة السلالة والحفاظ عليها والإعمار فان لم نك البنائيين نكون الممهدين، وهذا لا يقبل ما نفهم من معاني الرفاهية في وحي الأنانية. هنا تأتي الإيجابية كوعي: أن تدرك ملكك ليس ما أخذت، بل ما أعطيت. ليس ما تزعمه بل ما تترك أثره في الأنفس من بعدك. الإيجابية هي أن تجعل كل طاقتك لبناء ما يبقى، لا للانغماس فيما يزول. أن تعيش كل يومك وكأنك تبذر بذورًا ستظل تزهر حتى بعد أن ترحل فما أقصر عمر الإنسان الممتلئ بالحكمة وان طال بالسنين فهنالك الكثير من الكلام الذي سيرافقه إلى القبر.
أأكون واعظا
أأكون واعظا حين أقول إن الإنسان الصفري الغائب عن الوعي وهو يرى نفسه ويتصور انه يحقق إنجازا بطغيانه وتوسيع ملكه وظلمه هو إنسان ميت لان نفسه التي كرمها الله تلوثت أو غائبة في جب الشهوات التي استعمرت البعض وبنت فيه قيمها التي ستلقيه في حساب يأتيه فجأة﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴾﴿ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾والهلاك هو من لا امتداد له؛ في لحظة صمت داخلي، ربما تدرك هذه الحقيقة؛ كل ما ترفعه اليوم من قصور مادية أو عروش معنويةسيزول لكن الكلمة الطيبة واليد التي امتدت لتسعف لا لتفسد، النفس التي صبرت على الألم ولم تظلم، كل هذه ستبقى، وستشهد أنك كنت هنا، وأنك تركت الحياة أفضل قليلًا لمن بعدك، أما إن تركتها أسوأ فلا ملكت ولا أثريت أو تسلطت بل ملئ رصيدك باللعنات.
إنها همسات تأتيك على حافة الوعي لتذكرك بأن الإيجابية ليست شعارًا لتجميل اليأس، ولا وهمًا ورديًا للهروب من الواقع. الإيجابية هي أن تعيش بفهم، أن تعطي بغنى، أن تعمل بإخلاص، أن تتعبد بوعي، وأن تحب بصدق، لأنك حينها فقط تحقق الغاية من وجودك: عمارة الأرض وحفظ السلالة.
الخلود في العطاء
العمر فانٍ لا شك، لكن ما تزرعه فيه من معنىً يبقى خالدًا، ممتدًا كظل شجرة وارفة لا تدري كم نفسًا ستستظل بظلها بعدك. فلا قوة تبقى إلا ما سخرتها لما خُلقت لأجله، ولا مال يخلّد صاحبه إلا ما أحيا به حياةً أو أعان به ملهوفًا، لقد أدرك الرعيل الأول هذا فتخلى ليصنع المجد وينشر القيم ويحرر البشر جاءتهم الدنيا فأعطوها بعدل ولم يستأثروا، كانت ولادات جديدة بعد ضياع وموت النفوس، وكان التسامح أداة احتضان للبنائين الذين كانوا بالأمس يهدمون، كذلك رأينا الصحابة وولادتهم وكيف يحس كل من كان يعرفهم حينها بشعاع التغيير عندما آمنوا فهم آمنوا ولم يدعوا الإيمان.
ونحن اليوم نقف أمام إمكانية ولادة، والولادة لأنفسنا وليس لأجسادنا الولادة للآدمية التي غادرها الكثر بالأنانية التي حولت إبليس شيطانا، الم يئن الأوان ليدرك من يجب أن يدرك من معرفته ليولد، فالتاريخ لا يكتبه مخدوعون فمن يكتب يسجل سواد الحجب التي تعمي البصيرة.