مصداقية القضاء العراقي:بين مطرقة اعترافات اغتيال “الهاشمي” وسندان حكم الإعدام وإطلاق السراح؟

مصداقية القضاء العراقي:بين مطرقة اعترافات اغتيال “الهاشمي” وسندان حكم الإعدام وإطلاق السراح؟

البغدادي

*“إن استقلال القضاة هو الضمانة الأولى لحريتنا، وهو مبدأ يجب ألا يُمس أبدًا”توماس جيفرسون.

يُعد استقلال القضاء عن التأثيرات الحكومية والسياسية والحزبية ، سواء الداخلية أو الخارجية، ركيزة أساسية للدولة المدنية الحديثة، ومبدأً جوهرياً في النظم الديمقراطية المتقدمة. هذا المبدأ، المتأصل في مبادئ الفصل بين السلطات، يضمن نزاهة القضاء وشفافيته وكفاءته، مما يجعله حجر الزاوية في حماية الحقوق الفردية والجماعية على قدم المساواة. إن وجود قضاء مستقل يرسخ مبدأ المواطنة، ويعزز الثقة في النظام القانوني، ويسهم في تعزيز استقرار المجتمع وتطوره من خلال ضمان تطبيق العدالة دون تمييز أو محاباة، مما يجسد أسس دولة القانون والمواطنة للجميع .

في مساء يوم السادس من حزيران 2020، اهتزت بغداد على وقع جريمة بشعة، حين أُطلقت رصاصات الغدر على الخبير الأمني والمؤرخ العراقي الدكتور “هشام الهاشمي” أمام منزله في زيونة، ليسقط شهيداً أمام أعين أطفاله. كانت تلك الرصاصات ليست فقط موجهة إلى جسد “الهاشمي”، بل إلى صوت الحقيقة الذي كان يصدح بنقد الفساد والميليشيات، وإلى آمال العراقيين في دولة تحترم سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء . واليوم، وبعد مرور خمس سنوات، تُطرح أسئلة لاذعة من قبل الرأي العام : أين مبدأ العدالة؟ وهل أصبح القضاء العراقي أسير الميليشيات والمحاصصات الطائفية؟.

أثار البيان الصادر عن “مجلس القضاء الأعلى” في 7 تموز 2025،(1) بشأن تسريب مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام , ويظهر اعترافات (أحمد حمداوي عويد) ، المتهم باغتيال (هشام الهاشمي)، حالة من الجدل والحيرة لدى الرأي العام وانتقلت كذلك الى البرامج الحوارية السياسية في مختلف القنوات المحلية العراقية وما تزال صداها الى الان . يعكس البيان، الذي يهدف إلى توضيح ملابسات القضية، غموضاً وتناقضات قانونية تثير تساؤلات جدية حول مدى استقلالية القضاء ، نزاهته، وكفاءته , وشفافيته , ومدى التزامه بالمعايير القانونية الدولية . “البيان” يشير إلى أن المقطع المسرب، الذي يُظهر اعترافات المتهم، يُعد “مخالفة للإجراءات التحقيقية” و”محاولة لتضليل الرأي العام” لكن هذا التوصيف يفتقر إلى الوضوح القانوني ويُغفل معالجة جوهر القضية بخصوص الصيغة القانونية التي أدت الى إطلاق سراح المتهم ( أحمد حمداوي عويد ) رغم إدانته السابقة بحكم إعدام صادر عن محكمة جنايات الرصافة في 7 تموز  2023. “البيان” يذكر صراحةً أن المتهم “مُفرج عنه”، لكنه يعود لاحقاً لتأكيد إدانته بـ “عقوبة الإعدام”، دون تقديم تفسير قانوني لتبرئته في أذار 2024 أو توضيح مصيره الحالي وأين يوجد ؟ . هذا التناقض يعكس ارتباكاً في الخطاب القضائي، ويثير شكوكاً حول وجود تأثيرات خارجية على القرار القضائي . لان من الناحية القانونية، كان يتعين على “مجلس القضاء الأعلى” أن يبادر فوراً بإجراءات تصحيحية، تشمل فتح تحقيق مستقل للتحقق من صحة الاعترافات المسربة ، إعادة تقييم الأدلة المقدمة في القضية، ومراجعة قرار التبرئة وفقاً لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 وكما كان يجب استدعاء الجهات المسؤولة عن التحقيق الأولي، بما فيها لجنة الأمر الديواني رقم 29 (لجنة أبو رغيف)، للتحقق من مدى التزامها بالإجراءات القانونية أثناء استجواب المتهم . إن غياب مثل هذه الإجراءات يشير إلى تقاعس في تطبيق مبدأ سيادة القانون، وهو ما يتعارض مع التزامات العراق بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي ينص على ضمان محاكمة عادلة وشفافة.إن التعامل العشوائي و الارتجالي وإدخال وسائل الإعلام في قضية بهذه الحساسية، التي تتعلق باغتيال شخصية عامة وإعلامية بارزة، يعكس ضعفاً في الأداء القضائي، وربما خضوعاً لضغوط سياسية أو فصائلية. “البيان” ، الذي بدا مكتوباً على عجل ، لم يقدم إجابات واضحة وصريحة عن مصير المتهم، ولم يحدد المسؤوليات القانونية المترتبة على إطلاق سراحه أو الجهات التي قد تكون متورطة في نقض حكم الإعدام . هذا الغموض يُضعف ثقة الرأي العام في استقلالية القضاء ، ويُعزز الانطباع بأن قراراته قد تكون خاضعة لنظام المحاصصة الطائفية أو نفوذ جهات غير قضائية. ومن الضروري أن يتحرك مجلس القضاء الأعلى فوراً لاستعادة الثقة في المؤسسة القضائية عبر: 

(1) إصدار بيان واضح وصريح غير قابل للتأول أو المجادلة يكشف بوضوح مصير المتهم (أحمد حمداوي عويد) والأسباب القانونية لإطلاق سراحه أو لتنفيذ حكم الاعدام . 

(2) فتح تحقيق مستقل ونزيه وشفاف في ملابسات تسريب الفيديو والتحقيقات الأولية التي رافقت القضية ومن البداية.

 (3) مراجعة قرار التبرئة وأطلاق السراح وفقاً للمعايير القانونية القضائية الدولية والمحلية. 

إن أي تقاعس في هذه الخطوات سيُعزز من انهيار الثقة في القضاء، وسيُرسخ صورة العراق كدولة تُدار بمنطق الإفلات من العقاب بدلاً من سيادة القانون .

وما يزيد الطين بلة هو التصريح المثير للجدل للنائب “حسين مؤنس”، المرتبط بميليشيات موالية لإيران، والذي زعم أن تسريب الاعترافات يخدم “أجندات صهيونية”. هذا التصريح ليس فقط محاولة لتشتيت الانتباه، بل هو دليل على نفوذ الميليشيات التي باتت تتحكم بمفاصل الدولة، بما فيها القضاء. فكيف يمكن تفسير أن يُطلق سراح متهم اعترف صراحةً بجريمته، ويُزعم أن النائب نفسه أمر بتنفيذ العملية؟ أين الشفافية والنزاهة ؟ ولماذا لم يصدر بيان واضح يكشف مصير (حمداوي) ويرد على هذه الاتهامات الخطيرة؟ إن إطلاق سراح (حمداوي) ليس مجرد خطأ قضائي، بل هو انهيار لدعائم الدولة العراقية. القضاء الذي يفترض أن يكون درع العدالة، تحول إلى أداة بيد القوى الطائفية والميليشيات التي تتحكم بالبلاد. قرارات المحاصصة السياسية، التي طالما أعاقت بناء دولة القانون والمؤسسات، تظهر هنا في صورة المتفرج . فهل يخشى القضاء مواجهة الحقيقة؟ وهل أصبحت الميليشيات أقوى من القانون؟ عائلة “الهاشمي”، التي تعيش في المنفى خوفاً من التهديدات، تنتظر جواباً، كما ينتظر ملايين العراقيين الذين فقدوا الأمل في قضاء مستقل وعادل.

المدعو (حمداوي) ، الذي اعترف بتنفيذ الجريمة بأمر من جهات نافذة، بما فيها اتهامات خطيرة ضد النائب حسين مؤنس المرتبط بميليشيات موالية لإيران ، لم يُحاسب. بدلاً من ذلك، برأته محكمة الرصافة عام 2024 بحجة “نقص الأدلة”، رغم وجود اعترافات موثقة وأدلة مادية . هذا القرار ليس خطأ قضائياً، بل جريمة بحق العدالة تكشف خضوع القضاء لضغوط الميليشيات ونظام المحاصصة الطائفية. والأكثر فداحة، تصريح النائب “مؤنس” الذي زعم أن تسريب الاعترافات يخدم “أجندات صهيونية”، في محاولة سافرة للتغطية على تورطه المزعوم وتضليل الرأي العام.

إن غياب بيان صريح وواضح من “مجلس القضاء الأعلى” يكشف عن أزمة أعمق وفقدان الاستقلالية والشفافية. الدول المتقدمة تبني أنظمتها على قضاء نزيه يقاوم الضغوط السياسية، لكن في العراق، يبدو القضاء كأنه رهينة لنفوذ الأحزاب والميليشيات. إن تبرئة قاتل مثل (حمداوي)، رغم الأدلة الدامغة، ليست مجرد ظلم بحق “الهاشمي” وعائلته، بل هي طعنة لكل عراقي يحلم بدولة المواطنة والقانون. نطالب مجلس القضاء الأعلى بالإجابة بوضوح: أين أحمد حمداوي الآن؟ هل عاد إلى عمله في وزارة الداخلية؟ ولماذا يتم التستر على الحقيقة؟ إن السكوت عن هذه الأسئلة لن يزيد سوى من غضب الشعب وفقدانه الثقة في مؤسسات الدولة. العدالة ليست مجرد شعار، بل واجب مقدس يجب أن يتحقق، مهما كانت الضغوط. فهل يملك القضاء العراقي الشجاعة لمواجهة الحقيقة، أم أننا سنظل نشهد مسرحية الإفلات من العقاب تتكرر بين الحين والآخر ؟

[email protected]

(1) https://sjc.iq/view.76906/

أحدث المقالات

أحدث المقالات