رائعة ام كلثوم , ألأطلال , قام رياض السنباطي بتلحين المقدمة الموسيقيّة من مقام راحة الأرواح وتخللها صولو على القانون من مقام الراست , بينما يبدأ الغناء من مقام راحة الأرواح في الكوبليه الأول , ثم ينتقل إلى مقام الصبا المعروف بحزنه عند (( يَا حَبِيبًا زُرْتُ يَوْمًا أَيْكَهُ )) , ويستمر الغناء من مقامات الكرد والنوا عند (( أَعْطِنِي حُرِّيَّتِي أَطْلِقْ يَدَيَّا )) , وينتهي اللحن بقفلة عالية عند (( فَإِن الحظ شاء )) , ألا ان ام كلثوم سقطت من على خشبة المسرح , وهي تقول كلمة (( سكارى )) , ذلك المقطع التطريبي لحد الهياج , عندما هجم مستمع جزائري على السيّده أم كلثوم في غفلة من رجال الأمن ليقبّل قدميها حيث وصل الى ذروة النشوة من كلمة (( سكارى )) فأوقعها على أرض المسرح.

 

ما معنى سكارى؟ ومِسْكِيرٌ وسَكِرٌ وسَكُورٌ : كثير السُّكْرِ , الأَخيرة عن ابن الأَعرابي , وأَنشد لعمرو ابن قميئة : (( يا رُبَّ مَن أَسفاهُ أَحلامُهُ أَن قيلَ يَوماً إِنَّ عَمراً سَكور)) , وتقول الأمثال عن الخمر : (( حيث لا يوجد خمر لا يوجد حب )) , (( الحب مثل الخمر يتحسن مع مرور الوقت )) , (( وجبة بدون خمر مثل يوم بدون شمس )) , (( الخمر يبهج الحزين , ويحيي العجوز, ويلهم الشاب , ويجعل التعبان ينسى تعبه )) , ويقول ابو نؤاس : (( ألا فاسقِني خمراً , وقل لي: هيَ الخمرُ , ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ , فما العيْشُ إلاّ سكرَة بعد سكرة , فإن طال هذا عندَهُ قَـصُرَ الـدهـرُ , وماالغَبْنُ إلاّ أن تـرَانيَ صاحِيا و ما الغُنْـمُ إلا أن يُتَعْـتعني الســكْرُ , فَبُحْ باسْمِ من تهوى ’ ودعني من الكنى فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر , ولا خيرَ في فتكٍ بدونِ مجانة , ولا في مجونٍ ليس يتبعُه كفرُ)) .

هناك (( خميس السكارى )) , وهي عادة شعبيّة وليست دينيّة , وفي اللغة السريانيّة: (( خـَمـْشي شابا دْسَــكاري )) , وهو تقليد شعبيّ وعادة قديمة في الشرق المسيحي وربما في الغرب أيضاً , فحواه أنه في يوم الخميس الذي يسبق الصوم الأربعيني (الصوم الكبير) أشيع بأنه في ليلة هذا الخميس يتوجب على رجال القرية وخصوصاً من الشباب المتزوجين أو العزاب تناول الخمر (أو العرق) وهو المشروب الروحي الوحيد الذي كان متوفراً في تلك الأيام , علماًأنه كان يـُحَضـَّر ويـُصَنـَّع في بيوت القرية , فتعمر الموائد خصوصاً باللّحم المشوي الذي يتوجب التخلص منه خلال هذه الأيّام قبل الصوم , ويتزاور الأصدقاء والأقارب لعقد جلسات السهر في هذه الليلة التي سوف تطول أيّام عودتها , لأنهم مقبلون على الصوم , وفي هذه الليلة يشاع أنه من لايتناول الخمر يسقط أقرب المحبوبين إليه من سطح الدار, وهذه هي العبارة السريانيّة في النص الأساسي لهذه العادة : (( أديو خـَمْشي شابا دْسـَكاري , أيما دْلا شاتي أْمْنـَبْـلا بَـخـْتيه مْـكاري )) .فالمتزوج يقال له سوف تسقط زوجته , والخاطب خطيبته , والعازب حبيبته إذا كان يحب , أو أمه أو أخته , وطبعاً هذا الإدعاء بعيد عن الحقيقة ولكن يستخدمه البعض كذريعة لإرضاء نهمه في شرب الخمر, ولأنه أيضا سوف يبتعد عن تناوله طيلة أيام الصوم الكبير, حيث لا يحل شرب الخمر خلال أيام الصوم ,أمّا اليوم فلا زالت هذه العادة يذكرها الكثيرين لأجل التسلية.

كتب علي عزت بيجوفيتش : (( الشخص اليقظ بين السُّكارى مُضحك ومثير للسخرية , ففي مجتمع السكارى يكون السكارى هم الأغلبية التي تحدد معيار الحالة السوية , ويصبح اليقظ شاذًّا )) , وهو ماتطرق له ألأخطل الصغير : ((أدب الشراب إذا المدامة عربدت فى كأسها أن لا تكون الصاحي )) , يقول القدّيس شربل : (( يا ليتنا نسكر فقط بالله )) , (( سكارى التصوف )) , تعبير مجازي يشير إلى حالة الاتحاد بالله أو القرب منه التي يعيشها الصوفي , حيث يصف الصوفيون هذه الحالة بالنشوة والفيض الروحي الذي يغمر قلوبهم ,وهي ليست سكرًا بالمعنى الحرفي للخمر , بل هي استعارة لوصف حالة الصفاء والتوحد مع الذات الإلهية , والسكارى في هذا السياق , لا تعني السكر بالمعنى المادي للكحول , بل هي استعارة لوصف حالة النشوة والذهول التي يشعر بها الصوفي نتيجة لقربه من الله.

 

السكر الصوفي , قال المخالف: (السُكر يقع من الصوفي لكن سُكر من نوع خاص , يسقط معه التمييز و تبقى حلاوة الإيمان , يصدر مع هذا النوع من السُكر العجيب أقوال مخالفة للشرع و محرمة , أنصب خيمتي على جهنم , و لكن لا جناح عليهم في ذلك , ثم ساق من كلام ابن تيمية ما نصه : (( وفى مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز , مع وجود حلاوة الإيمان كما يحصل بسكر الخمر وسكر عشيق الصور, وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء , كما يحصل بحال حُبِّ فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق , ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى , وهي شطحات بعض المشائخ كقول بعضهم : ( أنصب خيمتى على جهنم ) , ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع , وقد يكون صاحبها غير مأثوم , وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو, ومن يعين كافرا أو ظالما بحال ويزعم أنه مغلوب عليه , ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم , فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة , بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرا محرما )) .

السكر الصوفي مقام من مقامات التصوف , ومرتبة من مراتب المريدين السالكين في طريق الله سبحانه وتعالى , إنه سكر عقلي , والسكر العقلي سكر العارفين الذين يتوخّون منه نشوة عارمة تفيض بها نفوسهم , وقد امتلأت بحب الله حتى غدت قريبة منه كل القرب , وقد أوردوا في شعرهم منذ وقت مبكر الكأس والشراب، فلقد شوهد داود الطائي(164ه) مبتسما، فلما سئل عن دواعي ذلك قال : (( عجبت لمن يقول : ذكرتُ ربي أمــوت إذا ذكـرتك ثم أحـيا فأحيا بالمنى وأموت شوقا شربت الحب كأسا بعد كأس وهل أنسى فأذكرُ مانسيتُ؟ ولولا حسن ظني ما حييت فكم أحيا عليك وكم أموت؟ فما نفد الشراب وما رويت)) .

كان أبن الفارض صوفيا غلبه السكر, واستبدت به النشوة , يسمع فيستخفه الوجد , وتغشى أعضاءه الحركة , ويقهره وارد السمع , فلا يملك له صرفا فيسوح في سبل الفناء , يطوي واردات البقاء , ليظل في شهود المشهود , هوعالم من التلاقي يكسر حاجز المعقول والحس , ولا يصلح البوح به إلا بكسر حسيات اللغة , حتى تنتظم اللغة بما يشبه الازدواجية الدلالية بين البقاء المحس , خطاب العامة , والتجلي المبني على الفناء, خطاب الخاصة الخالصة , وهو بهذا يعبر عن تجربة وجدانية لها مقتضياتها التي تشحن اللغة بحالة من التوتر الدلالي , يظهر بهذه التلويحات والإشاريات الميثوصوفية , وهو يخط طريقا, ويبني ما يمكن أن أسميه منهجا في الشعر الصوفي :

(( شربنا على ذكر الحبــيب مدامــــة سكرنا بها من قبل أن يــُخلق الكرم

لها البدر كأس وهي شمس يديرها هلال , وكم يبــدو إذا مزجــت نــجم

ولولا شـــذاها ما اهتـــديت لحانها ولولا ســــــناها ما تصورها الوهم

ولم يُبق منها الدهر غير حُــشاشة كأن خَفاها في صــــدور النهى كتم )) .

 

كتب شاعر يساري : (( مخمورون بحب , ثملون بحب , نموت بحب , ونبعث أحبابا على كوثر أسمه سلاما أيها الإنسان )) .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات