الفن لا يزيل الألم , بل يجعلهُ مرئياً
“أوجين إيونيسكو “
للحروب تأثير كبير وعميق وملهم في الفن التشكيلي عبر تاريخهُ, وتناول الفنانون بمنتهى البراعة والقوة ذلك التأثير الذي تخلفهُ الحروب في الوجدان الأنساني , وما يترك من أثار نفسية وأجتماعية وبيئية وصحية في المجتمعات والبلدان. لذلك نرى كيف أنتج الفنانون التشكيليون عبر الحقب الزمنية التي تخللتها صراعات وحروب مدمرة أعمالهم الكبيرة, كما حدث في الحرب العالمية الأولى والحرب الأسبانية الأهلية والحرب العالمية الثانية والحروب التي تلتها في بقاع الأرض وخصوصا الحروب والصراعات التي حدثت في الشرق الأوسط
الفنان والشاعر والأديب من أكثر الفئات التي تتأثر مشاعرهم بما يحدث من مآسي وكوارث على هذه الأرض لذلك يتفاعلون ويقدمون أعمال ملهمة ومؤثرة يخلدها التاريخ وتصبح البعض منها إيقونات خالدة في تاريخ الشعوب .وتتعرض هذه الأعمال للدراسة والنقد والمراجعة بين فترة وأخرى من قبل الباحثين والنقاد والجمهور.
لوحة بابلو بيكاسو “جيرنيكا” تعد من أهم هذه الأعمال التي جسدت فضائح الحرب ووحشيتها , وتكشف فضائع الحروب ومأساتها, وترسم ذلك الألم الذي يضيء عبر مسار تاريخ الفن, وتكشف الوحشية التي أنقضت على هذه المدينة حين تم قصفها بالطائرات النازية. أهمية لوحة بيكاسو في تاريخ الفن وأمتداد تأثيرها الى يومنا هذا وأستذكارها في مسار النقد الفني يعود الى بنية تأسيس العمل , حيث في تقديري لايمكن لأي مدرسة أو اسلوب فني يقدم لبيكاسو ما قدمهُ الأسلوب التكعيبي لهذا العمل , لأن الأسلوب التكعيبي المبني على التفكيك والتهشيم الواقع ومن ثم أعادة تركيبهُ مرة أخرى , كان جدا مناسب لموضوع الذي يريد بيكاسو أن يقدمهُ للجمهور , وهو يرى التفكيك والتمزيق الذي حدث لهذه المدينة بسبب وحشية آلة الحرب النازية
لذلك كان الأسلوب التكعيبي مناسب في حالة بناء العمل. قدم بيكاسو عمل “جيرنيكا 1937” باللونين الأسود والأبيض وتدرجات اللون الرمادي مما يعطي للعمل البعد القاسي لمشاهد الدمار وكآبة المشهد , وكي يوغل بيكاسو أكثر في وصف وحشية القفص وبشاعة الحرب قدم الشخصيات والفكرات والأشكال بشكل غريب وهي أشكال مستطالة وفيها زواية حادة وخطوط متداخلة , فقدم في هذا العمل ألم الأمومة عبر وضعية رأس طفل مائل وصرخة الأم الصامتة, فهو أراد أن يقدم مشهد مفجع ومؤلم يعاد تكرارهُ في هذه الحرب القاسية وكل الحروب التي تلتهُ, بينما قدم مشهد الحصان الجريح في وسط العمل الفني , وهو يصرخ بشكل موجع وكأنه يرمز لمعاناة الشعب المعذب. أستخدم بيكاسو اسلوب التكعيبية بشكل مذهل في هذا العمل من خلال القوة التي يمنحها له هذا الأسلوب عبر تفكيك الواقع الذي تحطم بمأساة هذه الحرب , لذلك أستغل بيكاسو ما يتيح لهُ هذا الأسلوب من رموز وأشكال في أظهار ما يحدث من ألم وبشاعة بحق الأنسانية, وايضا قدم رمز القوة من خلال الجندي الميت وهو مازال يمسك بسيفه المكسور وهو ما يرمز للمقاومة الفاشلة وأن كان مازال هناك من أمل عبر وجود زهرة تنمو الى جانبه. ما قدمهُ بيكاسو في عمل “جيرنيكا” هو ليس عمل يروي المأساة بأسلوب واقعي صادم كما حدث من أعمال واقعية لحروب عبر التاريخ, وإنما قدم عمل جمالي صادم موحش يغريك بمشاهدتهُ وتفسيرهُ عدة مرات وأنت تتألم وتتأمل بنفس الوقت عن قدرت بيكاسو وقدرت الفن في ترجمة مشاعر أنسانية مؤلمة للآجيال اللاحقة, لذلك أعتمد الفنان غياب الألوان التي كانت تصف الدماء والنيران في الأعمال الواقعية , ليقدم لنا عمل بألوان حيادية صامتة وصادمة للمتلقي كي تكون أكثر أثارة لصدم وجدان المتلقي. يقول بيكاسو “الفن ليس زينة للحياة , بل سلاح للمقاومة” وهذا ما يحدث في تاريخ مسار الفن
وعبر مسار الفن هناك أعمال كثيرة قدمت لنا هذه المأساة مرة من خلال التركيز في تدمير بنية المجتمع وأخرى عبر التركيز في تدمير بنية ونسيج الأوطان . خلال السنتين الماضيتين قدم لنا الفنان العراقي “هاشم حنون” أعمال عديدة تصف وتسرد لنا مأساة “الحرب والأطفال” وكأنهُ يعيد صياغة قصيدة السياب الخالدة “الأسلحة والأطفال” . فقد قدم الفنان هاشم حنون خلال عامي 2020–2024 سلسلة من الأعمال التي تصف لنا بشاعة الحرب ومأساتها على حياة المدن بشكل عام والأطفال بشكل خاص, وليس هناك من هو أكثر تمرس وشغف في وصف المدن كهاشم حنون, في كل حالاتها المفرحة كضحكة طفل في أحد أزقتها , والحزينة كصرخة تهشم القلب تخرج من نافذة بيت فقدَّ أهلهُ طفلا جميلا
في أعمال هاشم حنون التي تناول فيها “الحرب والأطفال” يركز هاشم حنون على صياغة رموز تسكن عالم الطفولة وتعد مرآة لبراءة هذا العالم, كعربات الطفولة الصغيرة والفرارات الصغيرة والبالونات والفراشات والطيور والمراجيح وغيرها من الرموز . أن استخدام هاشم حنون لهذه الرموز ماهو الا صياغة للمعادل الموضوعي للبراءة والجمال أمام القبح والدمار, رغم أن هاشم حنون قد أستخدم في هذه أعماله الأسلوب التعبيري المجرد الذي يركز على وصف ما يشعر به الفنان والأنسان لما يحدث في الواقع . ألا أنهُ عمد الى أستخدام التشخيصية بدل الرمزية ولكن هذا الشيء لم يمنعه من أن يعيد صياغة رموز الطفولة في هذه الأعمال والزج بها كقيم أنسانية تتعرض الى الأنتهاك والتدمير من قبل آلة الحرب الوحشية كما يحدث في غزة وبقاع أخرى من العالم. أن أعمال هاشم حنون الممتدة منذ 2019 الى 2024 كانت تقدم نسيج بصري متماسك في عالم يبدو غير متماسك الأخلاق والقيم, لذلك أخذَّ في توظيف أجساد الأطفال الشهداء والجرحى كعناصر تتمركز في بؤرة الحدث, أنهُ يقدم تراجيديا وملحمة فنية عربية, لم تقدم من قبل بهذا التركيز والتماسك البصري في عالم التشكيل العربي بهذا الجمال رغم قساوتهُ. أنهُ يحول اللوحة الى مسرح تعبيري يجمع بين الواقع والخيال , بأسلوب تعبيري مكثف يجرد العمل من واقعيته بالفن وينتقل به الى الرمز والأشارة من خلال توزيعات بصرية للأشكال والشخوص
أن نقطة التشابه بين أعمال هاشم حنون في “الحرب والأطفال” وعمل “الجيرنيكا” لبيكاسو هو لجوء الفنان هاشم حنون في بعض أعماله الى أستخدام الألوان الترابية والأحادية كما فعل بيكاسو , مما يعطي للعمل تلك الرؤية الصادمة للحرب ويثير غبار المأساة والوجع الأنساني الذي تسببهُ مآسي الحروب
الناقد.. سلمان الواسطي
الولايات المتحدة , أريزونا