كتب الدكتور هيثم هادي نعمان الهيتي : تحدث أحد أساتذة جامعة بغداد عن زيارة تاريخية جرت عام 1973, حين جاء أستاذ زائر من جامعة هارفارد إلى جامعة بغداد , وهذا الأستاذ ينتمي إلى واحدة من أرقى جامعات العالم , صرّح أمام زملائه العراقيين بأنه كان يتوقع أن يلاحظ فجوة معرفية وبنيوية كبيرة بين هارفارد وبغداد , لكنه وبحسب شهادته فوجئ بغياب تلك الفجوة , وأشاد بمستوى التعليم , ونوعية البحوث , والبيئة الأكاديمية في جامعة بغداد , حتى أنه أقر بأن (( جامعة بغداد لا تقلّ مستوى عن هارفارد من حيث البنية العلمية في ذلك الوقت )) , هذه الشهادة لم تكن مجاملة دبلوماسية , بل كانت انعكاسًا لحقيقة تاريخية : العراق كان يملك آنذاك منظومة جامعية تنافس عالميًا , ويضم كفاءات علمية من الطراز الأول , ومراكز بحثية محترمة , وطلابًا يتخرجون بكفاءة عالية.
لكن هذه الصورة المشرقة تتهاوى اليوم أمام واقع مأساوي , فقد نُشرت مؤخرًا قائمة تصنيف العَلَم الأحمر (IR2), التي تُعنى برصد الجامعات التي تنتهك معايير النزاهة والأمانة العلمية , وتُصنفها كمؤسسات غير ملتزمة بأخلاقيات البحث العلمي , الصدمة الكبرى أن القائمة ضمت:
- كلية المستقبل الجامعة
- جامعة الكوفة
- جامعة بابل
- جامعة البصرة
- جامعة بغداد
- جامعة الموصل
- الجامعة المستنصرية
- الجامعة التكنولوجية.
ماهو معدل النزاهة العلمية (Research Integrity Index) , و ما هو مؤشر RI²؟
ظهر مؤشر RI² كاستجابة للثغرات المتزايدة في جودة الأبحاث المنشورة , وانتشار حالات التحايل العلمي والسرقات الأدبية والنشر في مجلات مفترسة أو غير معتمدة ,
يهدف المؤشر إلى قياس مدى التزام الجامعات ومراكز البحث بالمعايير الأخلاقية في النشر العلمي ,مستندا إلى بيانات قابلة للتحقق من قواعد معلومات علمية دولية مثل (( Scopus وWeb of Science. )) , ويكون : (( منخفض جدا (أخضر) ,
ومنخفض (أزرق) , ومتوسط (أصفر) , ومرتفع (برتقالي) , ومرتفع جدا (أحمر) ,
وعلى عكس المؤشرات التقليدية التي تحتفي بعدد المقالات أو ترتيب المجلات , فإن RI² يعالج البعد النوعي والأخلاقي للنشر, ويكشف عن المؤسسات التي تُمارس (( تضخما أكاديميا )) دون الالتزام بأخلاقيات البحث.
أن تُدرج جامعة بغداد – التي كانت تُقارن بهارفارد – ضمن هذه القائمة , يعني أن التراجع لم يكن عابرًا أو مؤقتًا , بل ممنهجًا وعميقًا , هذا التصنيف لا ينعكس فقط على السمعة الأكاديمية , بل يهدد مستقبل الطلاب , وشرعية الشهادات , وفرص خريجي العراق في العالم , والمشكلة إذًن ليست في (( خلل إداري )) يمكن أن تُعالجه لجنة تحقيق , بل في مشروع تدميري طويل الأمد استهدف العقل العراقي , وفتح الباب لتسييس الجامعات , وتفريغها من معايير الجودة والاستقلالية , وتحويلها إلى أدوات لإنتاج الطاعة , لا المعرفة , لقد تحولت الفجوة التي لم يجدها أستاذ هارفارد عام 1973, إلى هاوية عميقة في عام 2025 , ولا يمكن تجاوزها إلا بمشروع وطني حقيقي يعيد للعقل العراقي احترامه , وللجامعة العراقية مكانتها.
هذا يعني انهيار الجامعات العراقية من القمة إلى القاع , وان طلاب هذه الجامعات وشهاداتهم إنتهوا في مَزبلّة التاريخ , وَصاروا عُراة مِن العِلم والتَقدُم عَالمياً , فأن هذا التصنيف , الذي يُعرف بـ (( الشارّة الحمراء )) يمثل جرس إنذار حقيقي حول مستوى الكفاءة والنزاهة والأمانة العلمية في هذه المؤسسات , وهي ركائز أساسية لأي نظام تعليمي وبحثي طموح وفاعل , فما هي دلالات هذا الإدراج؟ وما هي التحديات التي يواجهها التعليم العالي في العراق , وكيف يمكن معالجتها؟ أن ذلك يؤشر وجود قصور حاد في تحقيق الشروط الأساسية للكفاءة والنزاهة والأمانة العلمية في الدراسات والبحث العلمي , إن إدراج هذه الجامعات على القائمة الحمراء له تداعيات وخيمة , ليس فقط على هذه المؤسسات بحد ذاتها , بل على سمعة التعليم العالي العراقي ككل , ويؤدي إلى فقدان الثقة في مخرجات هذه الجامعات , سواء من قبل الطلبة أو أرباب العمل أو المؤسسات الأكاديمية الدولية , ويؤثر سلباً على تصنيف الجامعات العراقية في المؤشرات العالمية, مما يعيق قدرتها على استقطاب الطلبة والباحثين المتميزين ,وينعكس ذلك على جودة الخريجين وقدرتهم على المنافسة في سوق العمل , مما يعيق التنمية الوطنية , وقد تتردد المؤسسات الأكاديمية الدولية في التعاون مع هذه الجامعات , مما يحرمها من فرص التبادل العلمي والمعرفي.
إن إدراج ثماني جامعات عراقية على (( القائمة الحمراء )) لمؤشر RI² هو لحظة فارقة تتطلب وقفة جادة وإصلاحات جذرية , إن مستقبل العراق يعتمد بشكل كبير على جودة تعليمه العالي وبحثه العلمي , ولا يمكن تحقيق التنمية المستدامة والتقدم في مختلف المجالات إلا من خلال مؤسسات أكاديمية تتميز بالكفاءة والنزاهة والأمانة العلمية , فهل ستكون هذه (( الشارّة الحمراء )) نقطة تحول نحو الارتقاء بالتعليم العالي في العراق , أم أنها ستظل وصمة تؤثر على مسيرته الأكاديمية ؟ الإجابة تكمن في الإرادة الحقيقية للإصلاح والتغيير.
(( قل انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)) .