في الحلة، حيث تنام الأساطير على ضفاف الفرات، وُلد إبراهيم خليل الهيتي يوم 22 نيسان من عام 1959. هناك، بين بساتين النخيل وأزقة الطفولة، خطا خطواته الأولى في عالم المعرفة، فأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة. غير أن رياح الحياة، بما تحمل من قسوة، حالت دون أن يبلغ مدارج التعليم العليا، فاستعاض عن ذلك بأن حمل قلمه سلاحًا ومرفأ.
انخرط في العمل محاسبًا في إحدى دوائر وزارة التجارة العراقية، يؤدي واجبه اليومي بصبر العارف أن له في الحياة شأنًا آخر ينتظره، حتى إذا بلغ السن القانونية، ترجل عن الوظيفة، لكنه لم يترجل عن الحلم.
منذ بواكير شبابه، كانت القصيدة تهمس له، تشده إلى سماواتها. نظم الشعر بقلبٍ فتيّ، ثم وجد في القصة القصيرة ضفافًا أخرى لبوحه، فراح يكتبها كما تكتب الأم دعاءها على كف طفلها. وفي عام 2005، انتمى إلى اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، مُثبتًا اسمه بين قامات الأدب وصُنّاع الكلمة.
أما آثاره فهي علامات مضيئة في درب الحلم:أحلام الرماد – مجموعة قصصية صدرت عن دار أهلة للنشر في بابل، تروي وجع الإنسان في رماد الأيام. آخر الليل أول الفجر – قصصٌ صدرت عن دار رند في دمشق، تنسج الليل بالأمل. صانع التوابيت – مجموعة قصصية تنتظر النور، وهي قيد الطبع، تحكي عن الموت والحياة بين أصابع النحات الحزين. بيني والرصاصة حلبة للرقص – ديوان شعري صدر عن دار روافد في القاهرة، يرقص فيه الألم والكبرياء على إيقاع الرصاص. لم تعد ضفائري أرجوحة لعينيك – مجموعة شعرية أخرى، ما تزال تختمر في رحم الطبع، عنوانها وحده حكاية شجنٍ طويل.
وقد توزعت نصوصه بين صفحات الجرائد والمجلات، تنبض بالحياة أينما حلّت: في الصباح، المدى، طريق الشعب، المشرق، الصباح الجديد، الأهالي، الزمان، التآخي، الاتحاد، ووصل صوته حتى جريدة النهار اللبنانية.
فهو ليس مجرد كاتب؛ إنه صدى لأوجاع الأرض، ونبضٌ يخبئ بين كلماته أحلام مدينته وأحلامنا جميعًا… شاعرٌ وقاصٌّ يمشي في الدروب القديمة، وهو يحمل في عينيه وهج القصيدة، وفي قلبه صبر الحكاية.
وهذه قراءة في قصيدة “لا تلقي علي باللائمة”:
ماذا أفعل يا صديقي…؟
فسقف المطالب بات مرتفعا
حتى أصبحت قريبة
من اسمى غيمة
ص ، ص ص
لم تعد ذرائعك
تخفف من جراحي
جعلتني احوم في زحمة الشكوك
بعد هروبك عن سكتي
كنت النجم الوحيد
الذي يضيء ممراتي الحالكة
ويفكك اسرار انزوائي
ويزيح الخوف عن توحدي
الغارق بالشك حينا
وباليقين حينا اخر
حلمي الوحيد كنت انت
من يوقظ ترنيمة الحب
في حرائقي وسكوني
فتجتر الضحكة من عتمة احزاني
ومن صمت يرتعش خوفا وريبة
بيد القدر أصبح يمضي
خارج حدود سيرنا
إلى حد بات ظلك محض سراب
ما لذي طرأ الآن…؟
ما دمت لا تعلم
ابق بعيدا
اترك مقبض الموت
يطبق الخناق على نافذتي
هذه القصيدة تحمل في طياتها نزعة وجدانية عميقة، تنبثق من قلبٍ جريح يرزح تحت وطأة الخيبة والفقد. الشاعر هنا لا يسرد ألمَهُ سردًا مباشرًا، بل يُحوّله إلى مشهدية شعرية متقنة، تتداخل فيها الصورة والوجدان ضمن بناء لغوي مفعم بالتوتر والانفعال.
تقوم القصيدة على بنية حوارية تخاطب “الصديق” الذي كان ملاذًا ومصدرًا للضوء والأمل. هذا الحوار الداخلي يعزز من تماسك النص، ويمنحه إيقاعًا نفسيًا متدرجًا من العتب الخافت إلى الصرخة المدوية في ختام القصيدة. كما تتبع القصيدة منحنى تصاعديًا: من وصف حالة الشاعر الداخلية إلى تحميل الآخر وزر الانهيار والخذلان.
تعتمد القصيدة بشكل رئيسي على صور شعرية مكثفة ومؤثرة، منها “كنت النجم الوحيد الذي يضيء ممراتي الحالكة” – فهي صورة مشرقة تُبرز دور الصديق بوصفه النور وسط عتمة الشك والخوف. و” ترنيمة الحب في حرائقي وسكوني” – مشهد فني يجمع بين الحريق والسكون، مما يعبر عن اضطراب داخلي عميق. أو “قشة تنجبني من غرق” – استعارة قوية تختزل المأساة، وتصور اليأس بأبسط الرموز. وتتكرر في النص ثنائيات الضوء والظلمة، اليقين والشك، السكون والحركة، مما يضفي عليه عمقًا دراميًا ويعكس صراع الذات بين الأمل والخسران.
وتميل القصيدة إلى استخدام لغة مباشرة لكنها مشبعة بالعاطفة. لا تغرق في الزخرف اللفظي، بل تبني تأثيرها من الصدق الشعوري ومن البساطة التي تسمح للصور بالتوهج. ونلمس تكرارًا مقصودًا لبعض المفردات (“الشك”، “الخوف”، “العتمة”) مما يعزز النغمة الحزينة ويزيد من وطأة المعاناة.
وهي نص يتأرجح بين الاستسلام والغضب، بين البحث عن خلاص داخلي وإدانة الخارج. وهي قصيدة مشحونة بطبقات من الألم الشخصي تُقدّم عبر صور شعرية مؤثرة، وأسلوب لغوي بسيط يلامس أعماق القارئ، ويرسم ملامح الخيبة بأدق تفاصيلها.