لعبة الأمم وتطبيقات القوة… الاستعمار الجديد في القرن الحادي والعشرين

لعبة الأمم وتطبيقات القوة… الاستعمار الجديد في القرن الحادي والعشرين

تطرح تطورات الشرق الأوسط خاصة والعالم عامة تساؤلات عما يمكن ان يكون في استشراف المستقبل، من حيث نموذج القوة وتطبيقاته في العلاقات داخل الدول وفيما بينها وفق اعتبارات متغيرة لثوابت الجغرافية السياسية، اذا حاولت مقارنة ذلك ما بين فلسفة “هيغل” في حتمية الامتثال التاريخي ودورته الزمنية وبين شكوك “ديكارت” وإرادة القوة والانسان الأعلى في عهود الحداثة الأولى، انتهت الى حقبة الاستعمار الكولونيالي، فهل تطرق أبواب الشرق الأوسط الجديد نموذجه الاستعماري  مجددا ؟؟
 لم تتغير تطبيقات القوة على مر العصور، اذ تنبع من الفوائد التي تجنى أموالا في الغزوات او الفتوحات ومن ريع الضرائب على الأرض والتجارة، حتى صح قول هارون الرشيد للغمامة “أمطري أينما شئت فخراجك عائد لي”!!
 اليوم.. يكرر الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الصيني شي جين بيغ، وأيضا دول الاتحاد الأوروبي، فضلا عن روسيا الاتحادية والهند ودول النمور الاسيوية، يضاف لها دول في أمريكا اللاتينية والقارة الافريقية، ان يقولون  كل بطريقته لتلك الغمامة التي تمر فوق أراضيهم، وتلك التي يرغبون النفوذ اليها.. ما قاله هارون الرشيد بشتى العناوين ومختلف التبريرات. لكن، يقول ذلك  كل منهم ، وفق قدراته الذاتية في مقاييس القوة المتجددة التي تجمع في بوتقة المال لشركات متعددة الجنسيات، يترجم العرس الأسطوري لجيف بيزوس، رئيس شركة الامازون هذا النموذج، فهناك شركات كبرى اعتمدت نموذج “متعدد الجنسيات” الذي ظهر ما بعد الازمة النفطية 1973 ، لتكون لها القدرة على المواجهة في القفز من مركب موجات الركود الاقتصادي، وهناك اكثر من مدرسة اقتصادية في جامعات مرموقة تتعامل مع الأفكار التي تتعدل وفق متغيرات السوق والمنافسة لعل ابرزها مدارس لندن وفرانكفورت وسان فرانسيسكو، التي تتعامل مع هذا الطيف المتوسع من الشركات متعددة الجنسيات لتحاكي منظومة القوة المالية وتأثيراتها على الدول بما فيها الولايات المتحدة الامريكية.
وفق هذا المنظور منحت الولايات المتحدة الملاذ الآمن لأصول الشركات متعددة الجنسيات، تراكم وجودها في الصناعة المصرفية الامريكية جعل “الدولار” عملة دولية تدير اكثر المعاملات النقدية عبر جهات العالم الأربع ، وبذات معايير” المصالح” التي تحركت فيها السفن لنقل الجيوش الاوربية بحثا عن المستعمرات ومنها الأرض الجديدة التي تحولت الى الولايات المتحدة ، تتنقل الاساطيل الامريكية في قواعدها عبر جهات العام لحماية مصالح هذه الشركات، التي يتعامل معها الكثير من متعصبي الايدولوجيات الثورية، فلم ينجح مصدق في تأمم نفط ايران، وكان تأميم نفط العراق اعلانا للحرب عليه، كما لم ينجح كاسترو في الحد من نفوذ شركات زراعة قصب السكر، وانتهت الثورة الصينية الى نظام اقتصادي مزدوج، ما بين الاستثمار المفتوح لذات الشركات التي كان الشعب الصيني يقاتل ضد الدول “الامبريالية” التي تمثلها، كذلك فعلت فيتنام، وأيضا النمور الاسيوية، بعد ان توصلوا الى ذات قناعة هارون الرشيد، ان تلك الغمامة التي تمر فوق سيادة أراضيهم لابد و…ان يعود لهم خراجها !!
 في نهاية القرن العشرين، كلفت مجموعة من مراكز الأبحاث الامريكية بتصميم  مشروع “القرن الأمريكي الجديد” ولعلي أتذكر تلك الندوات التي كانت تعقد في قناة CNN لمناقشة المصالح التي يمكن ان تجنيها الشركات متعددة الجنسيات من تلك الأفكار التي انطلقت من ذات المدراس الفكرية الاقتصادية باعتبار الاقتصاد المحرك الحيوي لعجلة الاستراتيجيات السياسية والعسكرية، فهناك ثلاثة كارتلات الأولى مصرفية والثانية صناعية تشارك فيها الصناعات العسكرية والثقيلة وصناعة الادوية، والثالثة صناعات الاتمتة التي تطورت الى الذكاء الاصطناعي، وكانت برامج البحث والتطوير الامريكية، مثل أبحاث وكالة ناسا للفضاء التي انتجت ما يعرف اليوم بنظام الانترنيت، او مؤسسة العلوم الوطنية (National Science Foundation) التي تدعم الأبحاث الأساسية والتعليم في جميع المجالات. لذلك اثارت تلك العقود التي وقعها الرئيس ترامب مع السعودية والامارات وقطر للمشاركة في هذه البرامج حفيظة اليمين الأمريكي المتشدد، فيما تعد هذه البرامج حصرية لولاية الملكية الفكرية الامريكية، وهناك منازعات كبرى بين واشنطن وبكين في هذا المجال، فقد أعلن الرئيس ترامب قبل زيارته لهذه الدول تخصيص 500 مليار دولار في برامج البحث والتطوير المستقبلية، لإنتاج معارف متجددة لها السبق في مضاهاة ما يمكن ان تصل اليه الدول المنافسة بما فيها الدول الحليفة في الاتحاد الأوربي على سبيل المثال. وقد سبق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان ان صرح في أحد احتفالات إطلاق مشروعه  “نيويم 2030” ان التطور الاقتصادي والصناعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ستحول السعودية والشرق الأوسط الى اوروبا جديدة وقارن بين نموذجي الموبايل القديم والأكثر تطورا وسط تصفيق كبار المدراء التنفيذين لذات الشركات متعددة الجنسيات!!
 لست متعلقا بنموذج المؤامرة وتحليلاتها، بل هي وقائع منشورة في المشروع الأمريكي للقرن الحادي والعشرين، افصح عنها الرئيس ترامب في رئاسته الأولى بعنوان مشروع “القرن” وفق طرفي معادلة، الأول تصفية القضية الفلسطينية واطلاق مشاريع تنموية ضخمة في المنطقة احد روافعها الاتفاقات الابراهيمية، وكان من المتوقع ان تمضي السعودية لتوقيع ذات الاتفاقية او على اقل تقدير المضي بالمفاوضات مع إسرائيل لولا معركة السابع من تشرين الثاني في غزة ، وما صاحبها من تداعيات امتدت الى تصفيه حزب الله وتغيير نظام بشار الأسد والحرب الإسرائيلية على ايران، وما زالت تداعيات الدومينو تمضي بإدارة الرئيس ترامب، فيما لم تظهر أي قراءة  واقعية لكل ذلك غير ما نشره الأمير تركي الفيصل على صفحات مجلة ” THE NATHION” الامريكية مقارنا بين حتمية القوة النووية الإسرائيلية وازدواجية قرار الرئيس ترامب في المشاركة بهذا العدوان، لكن فات الأمير السعودي ان في ذلك اثمانا لابد وان تدفع ، ومنها ما سبق وان دفعته بلاده في المتغير الثقافي من دولة توصف سنويا في تقارير حقوق الانسان الامريكية بالدولة ” الراديكالية المتشددة” التي أضحت اليوم دولة رفاهية، جعلت هيئة الأمر بالمعروف تنأى جانبا، فيما مازالت تلك التقارير تتهم ايران بتلك التهم، وربما لم تفهم ايران مغزى احاديث ترامب عن رفضه استهداف المرشد الأعلى خامنئي خلال الحرب الإسرائيلية الاخيرة، فقط لأنه قدم له هذا العرض على “طبق القنابل العميقة” التي قصفت المواقع النووية الإيرانية، لينتهج ذات تطبيقات النموذج السعودي وصولا الى قبول المشاركة وان كان في الأقسام الخلفية لقطار الشرق الأوسط الجديد ، الذي بات على ترامب اعلان انطلاقه بموافقة ايران او رفضها، مما يجعلها تدفع اثمانا باهظة، بعد ان دفعت الامة العربية في سنوات الكفاح العربي عامة والفلسطيني خاصة ولم تحصل غير تلك الوعود ب”مشروع الدولتين” فقط لا غير.
 وفق كلما تقدم، تبدو أفكار “هيغل” عن دورة التاريخ تستشرف عودة ” الاستعمار” في تسريبات الصحافة الإسرائيلية عن إعلانات كبرى لتوسيع الاتفاقات الابراهيمية، لتشمل ماليزيا وإندونيسيا وربما حتى الباكستان بعد توقيع السعودية، فهل ننتظر سفن الغزاة ام انها بين جدران سيادة دولنا بعناوين الذكاء الاصطناعي، وان بقي الشك غالبا كما عند “ديكارت”.. لكن الإفصاح عنه، فقط على طاولات الأبواب الدوارة في لعبة الأمم للقرن الحادي والعشرين!!

أحدث المقالات

أحدث المقالات