إبراهيم الجنابي شاعرُ الأرضِ والهواء ومراكبُ الحلم

إبراهيم الجنابي شاعرُ الأرضِ والهواء ومراكبُ الحلم

في مشهد الشعر العراقي، حيثُ تتقاطعُ الريحُ بترابِ المدنِ المنسية، وتتهادى الكلماتُ على ضفافِ الحروبِ والحنين، يطلُّ الشاعرُ إبراهيم داود كاظم الجنابي، كصوتٍ يحملُ نبرةَ المدن الصغيرة، ووجعَ البلادِ كلها، شاعراً وناقداً وساردًا ومسرحيًا، نسجَ حكايتَهُ الخاصةَ بخيوطٍ من توهجٍ ومعاناة، وكأنه أحد أولئك الحالمين الذين يشعلون قناديلَهم في ليلِ الأدب العراقي، لئلا ينطفئ المعنى في زمن العتمة.

   ولد الجنابي في بغداد سنة 1958، لكنه ما لبث أن حملَ جغرافيا الروحِ إلى ناحية الإسكندرية، التي ظلت حجرَ الزاويةِ في مشروعه الثقافي، وفيها غرسَ كلمتَه وشرعَ في بناء ما يشبهُ المنبر الثقافي البديل، حين ساهم في تأسيس منتدى الأدباء والكتاب هناك وترأسه لدورتين، وفي زمن الجفاف الأدبي، أطلق مع رفاقه مجلة الإشراق، في محاولةٍ لأن يكون الحرفُ بيتًا، والصفحةُ وطنًا.

   لم يكن الجنابي شاعرًا فحسب، بل حمل تعدديةَ النصّ في دمه؛ كتب القصة والمسرحية والنقد، ونشر الكثير من نصوصه في الصحف والمجلات، مشاركًا فعّالًا في المهرجانات الثقافية من المربد إلى الجواهري، ومن المتنبي إلى الكميت، وكأنه كان يؤمن أن الشعرَ ليس عزلةً، بل فعلُ حضور.

  في مجموعته الشعرية “أخاديد” (1999) بدا الجنابي ممسكًا بعصب اللغة، حافرًا في الذاكرة الشعبية والوجدانية، ليكشف عن نبرةٍ شعريةٍ تمتزجُ فيها الجرأة بالتأمل، والجرحُ بالحكمة. أما في “أجدفُ بأقصى ما تبقى من يدي” (2015)، فقد قدّم صوتًا أكثر نضجًا، وقلقًا أكثر صفاء، تتراءى فيه الذاتُ العراقيةُ وسطَ ركام الزمن، حائرةً في فضاءٍ يعجُّ بالفقد، لكنه لا يخلو من رجاءٍ داخلي.

   ولأن اللونَ عند الجنابي ليس مجرد بعدٍ بصري، بل أداةُ تعبيرٍ ومجازٍ وجودي، فقد أصدر كتابًا نقديًا بعنوان أثر اللون في المشهد الإبداعي المعاصر (2018)، وضع فيه خبرتهُ النقدية في تفكيكِ العلاقة بين التشكيل والأدب، فكان كما يقول بعض النقاد: ناقدًا يقرأ بعين الشاعر، وشاعرًا يتأمل بعين الناقد.

   نقده الأدبي، كما لاحظه المهتمون، لا يركن إلى تقنيات جامدة، بل يستند إلى شعورٍ حيّ بالنص، وإلى خبرة ميدانية في تلمّس خصوصية الأجيال الشعرية الجديدة. ولعل مشاركاته في لجان التحكيم، وظهوره كمعد برامج تلفزيونية، تؤكد تعدد وجوهه الإبداعية، وقدرته على المزج بين العمق الفني والممارسة الثقافية اليومية.

   رأى فيه النقاد شاعرًا لا ينحاز للحداثة المفتعلة، ولا يتكئ على التقليد الساكن، بل يمضي في دربٍ خاص، يُفعِّل فيه الصورة، ويُحضِرُ فيه الغائب من رموز الطفولة والهوية والذاكرة الجمعية. وهو في هذا يتقاطع مع التجارب التي تؤمن بأن الشعر لا يكتمل إلا حين يكون صدىً لما لا يُقال، وأن الجمال لا يُولد إلا من رحم المعاناة.

   لم تذهب مسرحية “ثكنات ثلجية”، التي حازت المركز الثاني في مسابقة “عالم سبيط النيلي”، بعيدًا عن هذا المنحى، بل أكدت نزوعه نحو المسرح كمرآة فلسفية، وصراع داخلي تتصارع فيه الفكرة والرمز والواقع. أما نصه “أركيلة الصبر”، الفائز بجائزة مركز النور، فقد كشف عن مفارقة لغوية وسردية عالية، وعن شاعرٍ لا يتوقف عن التجريب.

   وإذ ترأس تحرير صحيفة “الإسكندرية 21″، التي توقفت لاحقًا لغياب التمويل، فقد سجّل الجنابي تجربةً نادرة في الجمع بين الإبداع والعمل الثقافي المؤسسي، مؤكدًا أن الشاعر الحقيقي لا يكتفي بكتابة القصيدة، بل يسهم في بناء بيئةٍ حاضنة لها.

  لقد استطاع إبراهيم الجنابي أن يظلَّ، على الرغم من كثرة التحولات وتبدّل الأمزجة الثقافية، صوته الخاص الذي لا يشبه غيره. كتب بنبرةٍ تخلو من الادعاء، وبشغفٍ يسيل على الورق مثل نهرٍ يعرف مجراه. ولذلك، فإن من يقرأه، لا يبحث فقط عن قصيدة، بل عن حياةٍ كاملةٍ تختبئُ بين الكلمات.

من شعره قصيدة (في السابع من صمتي) التي تنتمي إلى نمط الشعر الحر وتستبطن مشاعر الانكسار والخذلان والاغتراب النفسي، بلغة رمزية عالية التكثيف. تبدأ بإشارة زمنية غامضة: “في السابع من صمتي”، لتدل على مرحلة زمنية شخصية لا تقويمية، توحي بالاحتباس الداخلي أو النضج الوجداني بعد سلسلة صمت مؤلم.

  تتمحور القصيدة حول خيبة أمل عميقة، ومحاولة الشاعر التماهي مع الفقد والنهاية، عبر خطاب داخلي موجه إلى الذات أو إلى “الآخر العاق”، الذي قد يكون رمزًا لخذلان شخصي أو جمعي. وتغلب عليها الرمزية والتجريد، فـ”رتاج أغنيتي”، و”قافلة بلا رتوش”، و”أوراقي الثملة”، و”قميص بلا أزرار”، كلها صور شعرية مشحونة بالإيحاءات النفسية والوجودية، وتُظهر الشاعر في حالة من التعرّي العاطفي والمكاشفة الحزينة. وهناك ميل نحو العبثية واليأس من إمكانية “الرتق” أو الترميم، إذ يقول: “وأعانق الوجود على لائحة الانتهاء”، وكأن الشاعر يختار النهاية عناقًا بدل المقاومة. كذلك تُبرز القصيدة مفارقة بارعة بين الرغبة في التجاوز (“كن… وانفخ… وارزم”) وبين التسليم للنهاية والضياع (“تلك مقبرة النسيان”، “ولا يومك بلا انتهاء).

   ويمتزج السرد الذاتي بالتوجّه إلى “الآخر” في ثنائية “أنا/هو” تعكس صراعًا داخليًا ومرارة من خذلان متكرر.وباختصار، القصيدة مرآة لذات منكوبة، تحاول أن تكتب عن ألمها بلغة تتوسل الجمال رغم القبح، والإيقاع رغم الفوضى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات