التطبير… بين شجاعة الفتوى ومراعاة الجماهير

التطبير… بين شجاعة الفتوى ومراعاة الجماهير

تُعدّ شعيرة التطبير من الممارسات التي أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط الدينية والاجتماعية، إذ يرى كثيرون أنها لا تمت للدين بصلة، بل إنها تتعارض صراحة مع المبادئ الدينية التي تنهى عن إيذاء النفس وتعريضها للخطر. وبالرغم من وضوح هذا المبدأ في النصوص الإسلامية، فإن موقف بعض المرجعيات الدينية تجاه التطبير ظل مترددًا أو مهادنًا.

في واقع الأمر، فإن المرجعيات التي امتنعت عن تحريم التطبير لا تفعل ذلك غالبًا انطلاقًا من اجتهاد علمي أو تأصيل فقهي رصين، بل خشية من ردود فعل الشارع الشيعي، الذي ارتبط عاطفيًا بهذه الشعيرة، إلى حد اعتبارها جزءًا من مظاهر الولاء الحسيني. وبذلك، يخشى بعض المراجع تراجع شعبيتهم أو انحسار نفوذهم الديني، في حال تصدّوا لتحريم هذه الممارسة.

وقد أثبتت التجربة التاريخية أن الشخصيات الدينية التي امتلكت الجرأة الكافية وأعلنت رفضها للتطبير، قد دفعت ثمنًا باهظًا لقاء ذلك. فالسيد محسن الأمين العاملي، الذي حارب التطبير قبل قرن تقريبًا، تعرّض لحملة شعواء من الاتهام والتشهير، وكذلك المرجع أبو الحسن الأصفهاني. أما السيد علي الخامنئي، فقد أصدر فتوى بتحريم التطبير بمشاركة أكثر من سبعين مجتهدًا في إيران، لكن الفتوى لم تحظَ بقبول جماهيري واسع، بل قوبلت بالتحفظ والرفض من قبل شرائح واسعة من الناس.

وهنا تبرز قصص لافتة تكشف جانبًا من مفارقة الفتوى في مواجهة العاطفة:

🔸 فحين جاء بعض المطبرين إلى السيد محسن الحكيم طالبين منه تأييدهم، أجابهم بعبارته الذكية:

“افعلوا ما شئتم، لكن ضعوا في جيوبكم ورقة تقول: لا علاقة للمذهب بما تفعلونه.”

ردٌّ جمع بين الحكمة والتهرّب من تسييس الطقس، لكنه أيضًا إعلان ضمني بعدم رضاه.

🔸 أما السيد الخوئي، فقد نقل عنه أحد طلابه أن سائلًا قال له: “أليس التطبيرتعبيرًا عن الحزن؟”

فرد الخوئي ساخرًا:

“إن كنت حزينًا، فابكِ، وإن كنت غاضبًا، فاضرب الحائط، لا رأسك!”

جوابٌ صريح يعبّر عن أن الدين لا يحتاج إلى جمجمة مشقوقة كي يُثبت ولاءه.

🔸 وفي فتوى السيد السيستاني الشهيرة، رفض تطبير الأطفال واعتبره إساءة للمذهب واستغلالًا لضعفهم الجسدي والنفسي، مؤكدًا أن التطبير إذا سبب هتكًا لصورة الشيعة، فهو غير جائز.

إنها صياغة واضحة لخط مرجعي لا يجامل حين يُصبح الدم أداة استعراض.

هذا التوتر بين الموقف الديني والواقع الشعبي، يكشف عن أزمة عميقة في العلاقة بين المرجعية والجماهير. فبعض المرجعيات التي تخلت عن مسؤوليتها في تحريم التطبيرحفاظًا على مكانتها الجماهيرية، إنما تقدم نموذجًا للزعامة الدينية القائمة على المداراة لا على المبادئ. وفي رأيي، فإن مرجعية من هذا النوع لا تستحق الاتباع.

أما بعض الشخصيات الدينية غير المجتهدة، التي تروج للتطبير جهارًا نهارًا، فهي تمارس نوعا من الذكاء العاطفي”، لا بقصد التنوير، بل بغرض دغدغة مشاعر الجماهير، واستثمار تعلقهم العاطفي بالحسين عليه السلام في كسب النفوذ أو المكانة، وهو سلوك لا يبتعد كثيرًا عن الشعبوية الدينية.

لقد أكدت تجارب التاريخ وعلم النفس الاجتماعي، أن من يسعى لبيان الحقيقة للجماهير غالبا ما يقابل بالرفض والسخط، بينما يحظى من يقول ما يريد الناس سماعه بشعبية واسعة، ولو كان على حساب الحقيقة والدين والعقل.

إن شجاعة الفتوى اليوم لا تقاس بمدی رضا الجماهير، بل بقدرة الفقيه على قول لا” في وجه الطقس، حين يتحول إلى وسيلة تجهيل، لا وسيلة تعبير.

محمد ساجت السليطي

كاتب وباحث عراقي مهتم بالشأن الديني والاجتماعي، يقدم مقاربات نقدية للخطاب الديني وسلوك المؤسسة الدينية، ويسعى لإعادة قراءة الموروث بعين عقلانية وعصرية. نشر مقالاته في عدد من المنصات العربية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات