ليس من السهل أن تتحدث عن شمران الياسري، أو “أبو كاطع”، دون أن ترتجف نبرتك بين حنينٍ وألم، أو أن ينعقد قلبك بين ضحكةٍ ساخرة ودمعةٍ مختنقة. فهذا الرجل، القادم من بلدة “محيرجة” جنوب الكوت، لم يكن مجرد قاص أو صحافي، بل كان ظاهرة ثقافية وسياسية، تمشي على قدمين وتُسمع صداها في الريف والمدن، في الأزقة والمقاهي، وفي سطور الصحف وصفحات التاريخ القريب.
ولد عام 1926، ولم تكن حياته منذ الطفولة سوى تمهيدٍ لحكاية فلاحٍ قرر أن يسرد ما رأى وما سمع وما اكتوى به. حمل قلمه كما يحمل الفلاح منجله، لا ليحصد السنابل، بل ليحصد الزيف والادّعاء، وليغرس بذور الحقيقة في أرضٍ مغمورةٍ بالطين والدم.
اشتهر أبو كاطع برباعيته الروائية: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس حميد، التي كتبها في سراديب التخفي، وهو يطارد الحلم من قريةٍ إلى أخرى، متنكرًا باسم “حسن”، لكن اسمه الحقيقي ظل يتردد على ألسنة الناس كأنه طيفٌ لا يُقيد. تلك الروايات لم تكن مجرد سردٍ لأحداث الريف العراقي، بل كانت مرآةً كاشفة لتناقضات مجتمعٍ يتحرك ببطء بين إقطاعٍ غاشم ووعدٍ بالتحرر لم يكتمل. كانت الرواية عنده وسيلة مقاومة، كما كانت الصحافة عنده فعل فضح ومواجهة.
ولعل أشهر ما تركه للناس هو صوته الإذاعي في برنامجه الخالد: احچيها بصراحة يا أبو كاطع. ما إن تبدأ نبرته حتى تتدفق الحياة من مذياع قديم في بيت طيني أو تحت شجرة في ساحة قرية نائية. كان يلقي كلماته بحسٍّ عميقٍ من المرارة والتهكم، وقدرةٍ فريدةٍ على تحويل المعاناة إلى حكاية، والسخرية إلى سلاح. كان صوته صدى لصوت الفلاح، وهمّه همّ الفقير، وضحكته المختنقة صرخةً في وجه الظلم.
لم يكن أبو كاطع مجرد كاتب ساخر، بل كان كاتبًا حزينا، كما وصفه أحد الكتاب: كان حزنه نابعا من وعيٍ حاد، وإدراكٍ عميق بأن التغيير الذي ناضل من أجله قد انحرف عن مساره، وأن الثورة التي حلم بها أُفرغت من مضمونها، وأن الفلاح الذي كتب عنه قد استُبدل حلمه بكوابيس لم تنتهِ.
من صحيفة صوت الفلاح السرية، التي أصدرها عام 1953 مع أربعة فلاحين ومهندس زراعي، إلى طريق الشعب والتآخي والثقافة الجديدة، ظل أبو كاطع وفياً لقضيته: الدفاع عن الإنسان البسيط، عن الريف المهمّش، عن الوطن الذي سُرق من فقرائه باسم التحرير والتقدم.
كان عموده الصحفي بصراحة أبو كاطع مشهدًا أسبوعيًا يتوق إليه القرّاء، ليس لحكاياته الساخرة فحسب، بل لصدقه العاري، ولأنهم كانوا يرون فيه ما لا يستطيعون قوله. لم يكن يكتب للترف أو للمديح، بل كان يكتب ليُحذّر، ليُعري، ليتحدى. وكان خصومه في السلطة يقرؤونه لا حبًّا، بل خوفًا، ليقيسوا درجة الغليان في الشارع، ومواضع الخلل في خطبهم المنمقة.
ولعل الشخصية التي التصقت به حتى كادت تكون جزءاً من اسمه، هي خلف الدواح، الفلاح الطيب الذي يتحول في رواياته إلى مرآة للواقع، ومقلاع يُقذف به الإقطاع والفساد في آنٍ معًا. لم يكن خلف مجرد بطل روائي، بل هو ظل أبو كاطع، هو روحه الممتدة، لسانه الآخر، وحنينه الأبدي إلى الطين والماء والحصاد.
لم يهدأ أبو كاطع، ولم يتعب من الحلم، حتى حين نُفي إلى الخارج عام 1977. أخذ معه مشاريعَ مؤجلة، من بينها قضية حمزة الخلف، التي نُشرت بعد وفاته، ومشروع القاموس الريفي الذي لم يكتمل، لكنه ظل شاهداً على رغبته العارمة في توثيق تراث الناس، لا تراث الملوك.
وفي السابع عشر من آب عام 1981، انتهت الرحلة فجأة، بحادث سير غادر، وهو في طريقه إلى كردستان العراق، ماراً بهنغاريا. مات وهو يسعى لإطلاق صوته من جديد عبر إذاعة المعارضة العراقية، لكن موته لم يكن النهاية، بل بداية فصلٍ آخر من الأسطورة.
عاد اسمه يتردد في المحافل، وبين أروقة شارع المتنبي، وفي كتب أبنائه وتلامذته ومحبيه. كتب عنه نجله إحسان النهر الرابع في العراق، وكأن العراق لم يكن يكتفي بفراته ودجلته وشط العرب، فكان أبو كاطع هو النهر الرابع: نهر السخرية، نهر الحكايات، نهر الحقيقة المغسولة بالوجع والضحكة المرّة.
لقد جمع شمران الياسري بين نبوءة القاص، وحكمة الفلاح، ودهاء الصحفي، وجرأة المناضل. لم يكن محض شاهدٍ على زمنه، بل كان أحد صُنّاعه، الذين كتبوا بدم القلب والضمير. وفي حضرة أبو كاطع، لا يُسأل المرء: هل تضحك أم تبكي؟ بل يُسأل: هل لديك الجرأة أن تحكي الحقيقة كما هي؟ احچيها بصراحة يا بو كاطع… لقد صدحت بها، فخلّدك الصوت.