عندما سأل مقدم برنامج إضاءات على قناة العربية الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد حول موضوع قصيدته ( في رحاب الحسين ) , أجابه الشاعر: ((علاقتي بالحسين عليه السلام کعلاقتي بالعمارة , فأنا ولد ُت في بغداد وبعد سنتين ونصف , انتقلت عائلتي إلى العمارة عشت بين شبکات الأنهار والأهوار والريف العماري , وهذا غذائي الشعري وکان تکويني الشعري الأول , وکنت أعايش مواسم عاشوراء بطفولتي بکل جوارحي , بحيث رسخت الأمام الحسين في أعماقي , وهو عندي نموذج البطل الذي أتمني أن أموت على غراره )) , نفس الشاعر العاشقة للحسين أجتذبت الكلمات الجميلة وجعلتها بهذا النسق الذي يصعب على غيره أن ينسج مثله , فهو ينظر الى الحسين بوصفه عنوان للأنسانية , ورمزا للأيثار, وعبد الرزاق دخل إلى الحسين من طقوس الجنوب المشحونة بالعاطفة , وتعتبر قصيدته من القصائد الوجدانية التي صنفت بين اجمل القصائد المشهورة التي قيلت في رثاء الأمام الحسين ,ألقاها في كربلاء بمناسبة استشهاده , وتعد من أروع كتابات الشاعر , لأنها منبعثة من وجدانه وضميره , والعجيب أن قائلها (صابئي) ليس مسلما , فالحسين شكل في قصيدته رمزا يحمل دلالات افتقرت اليها جميع قصائد الشعراء الذين سبقوه , فهو يختلف عن الشعراء الذين سبقوه لأن القصيدة الحسينية على يديه خطت خطوة أبعد من ثوابت القصيدة القديمة من بكاء وحزن ودلالات ملموسة , كالأتشاح بالسواد , وذرف الدموع , ولطم الخدود , وتناولت مواضيع جديدة كالقضايا الأجتماعية والسياسية الراهنة , لقد شكلت علاقة ألشاعر بالحسين الكثير من روافد شاعريته , لأنها علاقة وثيقة متجذرة في نشأته منذ الطفولة , فأبدع في حبها ورثائها مجموعة ضخمة من أعماله ألشعرية , ومنها هذه القصيدة التي وضح فيها تجذر الحسين في نفسه منذ الطفولة .

 

(( قَدِمتُ وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي حَسيراً , أسيراً , كسيراً , ظَمي , قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْك سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ , فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي ,ومُذْ كنتُ طفلاً وجَدتُ الحسين مَلاذاً بأسوارِهِ أحتَمي , وَمُذْ كنتُ طفلاً عرَفتُ الحسين رِضاعاً وللآن لم أ ُفطَمِ )) .

 

دخل عبد الرزاق عبد الواحد إلى الحسين من طقوس الجنوب المشحونة بالعاطفة , فهو مازال يمارس طقوس الزيارة مع آل الحسين , (( سلامٌ على آلِكَ الحوَّمِ حَوالَيكَ في ذلك المَضرَمِ , وَهُم يَدفعونَ بِعُري الصدور عن صدرِكَ الطاهرِ الأرحَمِ , ويَحتضنونَ بكِبْرِ النَّبِّيين ما غاصَ فيهم من الأسهُمِ , سلامٌ عليهم على راحَتَين كَشَمسَين في فَلَكٍ أقْتَمِ , تَشعُّ بطونُهُما بالضياء وتَجري الدِّماءُ من المِعصَمِ )) ,عاطفة عبد الرزاق وحاجته للتعويض جعلته يتفوق على ألآخرين , حين جاء محتاجا منكسرا لائذا ليجد في الشعر تعويضا , ألم يكن الشعر تعويضا للمتنبي عن كل خيباته؟ انظر هذه الالتفاتة الذكية حيث يحتاج الشاعر شجاعة السيدة زينب: (( سلامٌ على هالَةٍ تَرتَقي بلألائِها مُرتَقى مريَمِ , طَهورٍ مُتَوَّجةٍ بالجلال مُخَضَّبَةٍ بالدَّمِ العَندَمِ , تَهاوَت فَصاحةُ كلِّ الرجال أمامَ تَفَجُّعِها المُلهَمِ , فَراحَت تُزَعزِعُ عَرشَ الضَّلال بصوتٍ بأوجاعِهِ مُفعَمِ )) , لا أظن شاعرا وقف عند السيدة زينب مثلما فعل عبد الرزاق , واقول لا أظن لأن الأرض ولود وقد يكون قد فاتني خطاب فاق خطاب عبد الرزاق عبد الواحد في السيدة زينب , فالسبية التي استشهد أخواها وحملت أطفال الحسين مضرجين بدمائهم , كانت هي الملكة لكن بماذا متوجة؟ بالجلال الذي ألجم يزيد وتهاوت فصاحة جميع من في قصره أمام فجيعتها لتزعزع عرشه بصوتها المزلزل وهي ترتقي بلألائها مرتقى مريم .

 

الأرض لا تستحيي عند شاعرنا : (( ولو كان للأرضِ بعضُ الحياء لَمادَت بأحرُفِها اليُتَّمِ )) , ثم تحدث انعطافة غريبة حين يخاطب الشاعر الإمام العباس : (( ويا سيّدي يا أعَزَّ الرجال يا مُشرَعاً قَطُّ لم يُعجَمِ , ويا بنَ الذي سيفُهُ ما يَزال إذا قيلَ يا ذا الفَقارِ احسِمِ , تُحِسُّ مروءَ ةَ مليونِ سيفٍ سَرَتْ بين كَفِّكَ والمَحْزَمِ )) , هناك روايتان , إحداهما تقول إن أعز الرجال ( العباس) لم يسبق له أن يشترك في معركة قبل الطف , والثانية تؤكد اشتراكه في صفين , والشاعر اختار الأولى بدليل قوله ( يا مشرعا قط لم يعجم) يا سيفا لم يجرب في معركة سابقة , لكنك ابن علي صاحب ذي الفقار لذلك تذكر علياً لتحس مروءة مليون سيف تسري بين كفك ومحزمك , ولعل منح السيف صفة المروءة هي من الوصف الرائع المذهل , وأحسب أن الشاعر أراد بها مروءة ذي الفقار , والا من أين للسيوف مروءة وهي أدوات قتل وذبح ؟

 

يتجلى كسر أفق التوقع مع المقدس بوضوح لا يخلو من بعض الإساءة فمن الصعب أن تعيّر العباس بأبيه وسيفه بذي الفقار , أقول : من الصعب الجرأة على المقدس لكن لدى الشاعر يختلف الأمر ومع مافيه مما يخدش المشاعر الا انها جرأة شعرية يريد بها الشاعر النموذج الأعظم كي يعوضه عن نقصه ويطفيء خوفه , انظر ماذا يقول للعباس : (( وتُوشِكُ أن ثمَّ تُرخي يَدَيك وتُنكرُ زَعمَكَ من مَزْعَمِ , فأينَ سيوفُكَ من ذي الفَقار وأينَكَ من ذلكَ الضَّيغَمِ ؟ )) , حوار غريب وكأن الشاعر يخاطب نفسه لا العباس لكي يحصل على الاطمئنان فالعباس استشهد والشاعر مازال خائفا وسيلوذ بأعظم من يلوذ به الخائفون :

(( عليُّ , عليَّ الهُدى والجهاد عَظُمتَ لدى اللهِ من مُسلمِ , وَيا أكرَمَ الناسِ بَعدَ النَّبيّ وَجهاً وأغنى امريءٍ ٍمُعدَمِ , مَلَكتَ الحياتَين دُنيا وأ ُخرى وليسَ بِبَيتِكَ من درهمِ , فِدىً لِخشوعِكَ من ناطقٍ فِداءٌ لِجوعِكَ من أبْكَمِ )) , لقد وصل الشاعر إلى علي واطمأن وسيعود للحسين ليكلمه ويشكو إليه حاله ويفصح : (( قَدِمتُ , وعفوَكَ عن مَقدَمي مَزيجاً من الدّمِ والعَلقَمِ ,

وَبي غَضَبٌ جَلَّ أن أدَّريه ونَفسٌ أبَتْ أن أقولَ اكظِمي )) .

 

يصل الشاعر لذروة الشكوى , وإن كان يشرح فيها خذلان العرب للعراق , لاسيما أن القصيدة ألقيت ١٩٩٥ في ذروة الحصار, نعم يا عبد الرزاق , نعم يا أبا خالد , ونحن في أيام الحسين ,تدور علينا عيون الذئاب فنحتار من أيها نحتمي بل من أيّنا نحتمي؟ فيقول :

(( لَئِن ضَجَّ من حولكَ الظالمون فإنّا وُكِلنا إلى الأظلَمِ

وإن خانَكَ الصَّحبُ والأصفياء فقد خانَنا مَن لهُ نَنتَمي

بَنو عَمِّنا أهلُنا الأقرَبون واحِدُهُم صارَ كالأرْقَمِ

تَدورُ علينا عيونُ الذِّئاب فَنَحتارُ من أيِّها نَحتَمي

لهذا وَقفنا عُراةَ الجراح كباراً على لؤمِها الألأمِ

فَيا سيّدي يا سَنا كربلاء يُلأليءُ في الحَلَكِ الأقتَمِ

تَشعُّ مَنائرُهُ بالضّياء وتَزفُرُ بالوَجَعِ المُلهَمِ

ويا عَطَشاً كلُّ جَدْبِ العصور سَيَشربُ من وِرْدِهِ الزَّمزَمِ

سأطبَعُ ثَغري على مَوطِئَيك سلامٌ لأرضِكَ من مَلْثَمِ )) .

أعتبرت قصيدة ( في رحاب الحسين ) من أبرز القصائد التي تناولت فاجعة كربلاء الخالدة , ومكانة الإمام الحسين في الوجدان الإسلامي والعربي , وليبرز عبد الرزاق عبد الواحد في هذه القصيدة قدرته الفائقة على توظيف اللغة والصور الشعرية لتصوير حجم المأساة , وعمق الأثر الذي تركته ثورة الحسين في نفوس الأحرار على مر العصور, لقد استطاعت هذه القصيدة أن تترسخ في الذاكرة الجمعية , وأن تُصبح جزءًا لا يتجزأ من الأدب الحسيني المعاصر, وذلك لما تحمله من صدق في العاطفة , وجمال في الصياغة , وعمق في الرؤية , مما يجعلها إضافة قيّمة إلى المكتبة الشعرية العربية , ولتُشكل رسالة قوية تتجاوز حدود الزمان والمكان , إنها دعوة إلى التمسك بالحق , والوقوف في وجه الباطل , وعدم المساومة على المبادئ السامية , القصيدة تُؤكد على أن ذكرى الحسين ليست مجرد ذكرى حزينة , بل هي مصدر إلهام وعزيمة لكل من يؤمن بالعدل والحرية .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات