يُعْتَبَر ابن خَلْدُون ( 732 ه / 1332 م تونس _ 808 ه / 1406 م مِصْر ) المُؤسِّسَ الفِعْليَّ لِعِلْمِ الاجتماعِ ، والمُنَظِّرَ الأوَّلَ له ، وَهُوَ أوَّل مَنْ حَلَّلَ أسبابَ قِيامِ الحَضاراتِ وسُقوطِها بأُسلوبٍ مَنطقيٍّ قائم على قواعد المَنهجِ العِلْمِيِّ في البَحْثِ ورَبْطِ الأسبابِ بالنتائج ، وَبَيَّنَ أنَّ لِقِيَامِ الحَضَارةِ وانهيارِها أسبابًا مُتداخلة ، سِياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية .
عَرَّفَ ابْنُ خَلْدُون الحَضَارةَ بأنَّها ” تَفَنُّنٌ في التَّرَفِ ، وإحكامُ الصنائعِ المُستعمَلة في وُجوهِه ومَذاهبِه ، مِنَ المَطابخِ والمَلابسِ والمَبَاني والفُرُوشِ والأبنيةِ وسائرِ عَوائدِ المَنزلِ وأحوالِه ” . كَما أنَّهُ عَرَّفَ الحَضَارةَ ضِمْنَ الإطارِ الاجتماعيِّ والتاريخيِّ بأنَّها ” الوُصولُ إلى قِمَّةِ العُمْران ، والتَّطَوُّرُ الثقافيُّ والشَّخصيُّ للمُجتمع ، والدُّخُولُ للرُّقِيِّ الاجتماعيِّ الثابت ” .
والحَضَارةُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِ هِيَ نِهايةُ العُمْرَانِ ، والطبيعةُ الجُغرافية لها دَوْر مُهِم في تَطَوُّرِ العُمْرَانِ ، حَيْث تَختلف الأقاليمُ الحَارَّةِ عَن الباردةِ ، وأيضًا ، عمليةُ التَّحَوُّلِ والانتقال مِنَ البَدَاوَةِ للحَضَرِ ، وكذلك السِّياسة والحاكمية والثَّرْوة والمال الذي يأتي مِنَ العَمَلِ والإنتاج . وَهُوَ يَعتبر أنَّ العَدْلَ عاملٌ مُهِمُّ في تَطَوُّر العُمْرَانِ ، والظُّلْم أحد أسبابِ الانهيارِ ، فَهُوَ مُؤْذِن بِخَرابِ العُمْرَانِ وَسُقوطِ الحَضَارةِ .
مِنْ أهَمِّ نظريات ابن خَلْدُون في تَكوينِ الحضارةِ نظريةُ العَصَبِيَّة ، وَهِيَ الوَعْيُ الجَمَاعيُّ والتضامنُ والوَلاءُ القَبَلِيُّ أو الوطنيُّ أو الحِسُّ المُجتمعيُّ، وهي التي تَجْعَل مِنْ جَمَاعةٍ مُعيَّنة جَمَاعةً قوية . والعَصَبِيَّةُ هِيَ الركيزةُ الأساسيَّةُ لأيِّ نَشاطٍ سِياسيٍّ واجتماعيٍّ في بِناءِ الحَضَارةِ ، والمُحَرِّكُ الأوَّلُ للمُجتمع . مِثْلَمَا يُعَدُّ الإنسانُ الثَّروةَ الحقيقية لِكُلِّ حَضارةٍ. وَهُوَ يَعتقد أنَّ للحَضَاراتِ أعمارًا كما أنَّ للأشخاصِ أعمارًا ، ومراحلُ قُوَّتِها وضَعْفِها مُشابِهة تَمامًا لِمَراحلِ حَياةِ الإنسان .
وللدُّوَلِ أعمارٌ لا تَتَعَدَّى مِئة وعِشرين عامًا، وتَمُرُّ بِثَلاثةِ أجيال: الخُشونةُ والبَسالةُ في المَجْدِ، والتَّرَفُ والانكسارُ وَضَعْفُ العَصَبِيَّة ، والتَّرَفُ والعَجْزُ عَن المُدَافَعَةِ وانقراض الدَّولة .
حَلَّلَ ابنُ خَلْدُون الحَضَارةَ وأزمةَ الإنسانِ ، ورَأى أنَّ انهيارَ الحَضَارةِ مُرتبط بِبُعْدِ الإنسانِ عَن المَبادئِ والقِيَمِ ، لِهَذا وَجَبَ أنْ تُبْنَى الحَضَارةُ على الأخلاقِ ، وأكَّدَ على مَبدأ التفاعلِ بَين الحَضَاراتِ ، حَيْثُ تأخذ كُلُّ حَضَارةٍ إنجازاتِ الحَضَارةِ التي قَبْلَهَا ، عَبْرَ جَدَلِيَّةٍ حَضَارية وَتَفَاعُلٍ بَنَّاء ، يَقُومُ على التَّعَاوُنِ لا الصِّدَامِ . والحَضارةُ مَتَى مَا وَصَلَتْ إلى ذِرْوَةِ النَّعيمِ والتَّرَفِ ، فإنَّ هَذا يُهَدِّد بِسُقوطِها وانحلالِها .
وَقَدْ شَبَّهَهَا بالكائنِ الحَيِّ في أطوارِ حَيَاتِه ، يَبْدَأ صَغيرًا ، ثُمَّ يَنْمُو ، حَتَّى يَصِيرَ صَبِيًّا فَفَتى يافعًا ، ثُمَّ يَبْلُغ مَرحلةَ الشَّيخوخةِ فالهَرَمِ ، وهُنا تَنْحَلُّ الحَضَارةُ وتَسْقُط .
وَيُعَدُّ المُؤرِّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي ( 1889 _ 1975 ) أَهَمَّ مُؤرِّخ بَحَثَ في مَسألةِ الحَضَاراتِ بشكل مُفصَّل وشامل ، ولا سِيَّما في موسوعته التاريخية ” دراسة للتاريخ ” التي تتألف من 12 مُجَلَّدًا ، أنفقَ في تأليفها أكثر مِنْ 40 عامًا . وَهُوَ يَرى ، خِلافًا لِمُعْظَمِ المُؤرِّخين الذين يَعْتبرون الأُمَمَ أو الدُّوَلَ القَوْمِيَّة مَجَالًا لدراسة التاريخ ، أنَّ المُجتمعَات ( أو الحَضَارات ) الأكثر اتِّسَاعًا زمانًا وَمَكانًا، هي المَجالات المعقولة للدراسة التاريخية. ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ سَبْعِ حَضَارات، هِيَ: الحَضَارةُ الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية،والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية ، والهندوكية ، والصِّينية ، والكُورية اليابانية ، والسابعة: الحضارة الغربية ، ولا يُعْرَفُ مَصِيرُها حَتَّى الآن .
يَقُولُ توينبي في تفسير نُشوء الحضارات إنَّ المُجتمعات لَدَى مُواجهتها تحديات بيئية أو بشرية مُعيَّنة ، تستجيب استجاباتٍ مُختلفة ، أي إنها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ إلى أُخْرَى، بعضها سلبية، وبعضها إيجابية . أمَّا فِيما يَتَعَلَّق بِنُمُوِّ الحَضَارة ، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحيويِّ ، وهي الطاقة الكامنة لَدَى الفَرْدِ والمُجتمعِ التي تنطلق بغرض تَحقيقِ الذات . وَهُوَ يَرى أنَّ الحَضَارَات تَحْمِلُ في طَيَّاتِها أسبابَ مَوْتِها وفَنَائِها ، وفَضْلًا عن أسباب وعوامل خارجيَّة تَجْعلها عاجزةً عَن الاستجابةِ للتَحَدِّياتِ البيئية ، فإنَّ مِنْ أهَمِّ عوامل سُقوطِ الحَضَاراتِ ، انهيار قِيَمِها الأخلاقية والدِّينية . وَقَدْ تَأثَّرَ توينبي بِمُقَدِّمَةِ ابنِ خَلْدُون الذي وَصَفَ أسبابًا رئيسية للانهيارِ التَّدريجيِّ للدُّوَلِ والحَضَارات .
يَعتقد توينبي أنَّ ” الحَضَارات تَمُوتُ انتحارًا لا قَتْلًا ” ، قاصدًا بذلك تَسليط الضَّوْء على سُلوكياتِ البَشَرِ وأفعالِهم في تَجَاهُلِ إرْثِهم الثقافيِّ ، والتَّخَلِّي عَن قِيَمِهِم الحَضَارية ، وفِقْدَانهم الدافع للتَّقَدُّمِ بعد أنْ تَتَّجِهَ إرادتُهُم تدريجيًّا لتجاهلِ واجبِ السَّعْي ، والفِرَارِ مِنْ دَرْبِ النَّجَاحِ ، والاستغناءِ عَنْ نِعْمَتَي الأمل والعمل . كما أنَّه يَعتقد أنَّ الحَضَارات لَيْسَتْ آلاتٍ غَيْر مَلْموسة أوْ غَيْر قابلة للتَّغيير، بَلْ شَبَكَة مِنَ العَلاقاتِ الاجتماعية داخل حُدودِها، وبالتالي فَهِيَ عُرْضَة لِقَرارات حَكيمة وغَيْر حَكيمة .
وعلى صَعيدِ سُقوطِ الحَضَارات يَرى توينبي أنَّه يَعُود إلى ثلاثة أسباب :
1_ ضَعْف القُوَّة المُبْدِعة في القِيادة ، وتَحَوُّلها إلى مُجَرَّد سُلطة تَعَسُّفية .
2_ تَخَلِّي الأكثرية عَنْ مُوَالاة الأقلية الحاكمة المُسيطرة ، والكف عَنْ تَقْليدِها وَمُحَاكاتها .
3_ الانشقاق والانقسام الداخلي الذي يُؤَدِّي إلى ضَياع الوَحدة في كِيَانِ المُجتمع ، حَيْث تَقِف الأكثريةُ ضِد الأقلية المُسيطرة .