١- في بداية تسعينيات القرن العشرين ومع تفكك يوغوسلافيا بدأت البوسنة والهرسك تسعى للاستقلال عن الدولة اليوغوسلافية التي كانت تضم عدة قوميات وبعد استفتاء شعبي في عام 1992 أعلن المسلمون والكروات استقلالهم بينما رفض الصرب ذلك وأقاموا كيانًا انفصاليًا بدعم من صربيا اندلعت الحرب بعد هذا الإعلان وشن صرب البوسنة حملة عسكرية شرسة استهدفت المسلمين والكروات وشهدت البلاد حصار المدن وارتكاب مجازر جماعية كان أبرزها مجزرة سربرنيتسا تعود أسباب الحرب إلى تصاعد النزعة القومية الصربية ومحاولات السيطرة على أراضي البوسنة وفشل المجتمع الدولي في منع العدوان مما أدى إلى تفوق عسكري لصالح الصرب وهو ما دفع بالبوسنيين إلى طلب المساعدة من دول إسلامية مثل إيران التي بدأت بدعمهم في ظل الحصار الدولي المفروض
٢-في الوقت الذي خذل فيه العالم المسلمين في البوسنة وتخلت الدول الكبرى عن واجبها الإنساني والأخلاقي ووقفت تتفرج على واحدة من أبشع المجازر في أوروبا الحديثة كانت القوات الصربية تمارس القتل والتهجير والتطهير العرقي ضد المدنيين العزّل من الشعب البوسني المسلم دون أن تحرك المنظمات الدولية ساكنًا واكتفى كثير من العرب والمسلمين ببيانات الشجب والاستنكار أو ببعض المساعدات الإنسانية المحدودة التي لم تكن قادرة على وقف آلة الحرب ولا على حماية شعب يُباد أمام أنظار العالم قُدّر عدد القتلى بما يقارب ثلاثمئة ألف من المسلمين بينهم أطفال ونساء حوامل وعجزة في مشاهد يندى لها جبين الإنسانية وتتناقض مع كل المواثيق الدولية وسط هذا الصمت المطبق برز موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي قدّمت دعمًا حقيقيًا ومباشرًا للمسلمين في البوسنة لم يكن دعمًا دعائيًا ولا خطوة تكتيكية بل كان نابعًا من قناعة دينية وإنسانية تعتبر نصرة المظلوم واجبًا شرعيًا لا يرتبط بحسابات الربح والخسارة ولا بتوازنات القوى كانت إيران من الدول القليلة التي مدّت يد العون للمقاتلين البوشناق وساعدتهم في الصمود أمام آلة القتل المدعومة من صربيا ومرتزقة الخارج وقدّمت دعمًا سياسيًا عبر المحافل الدولية وإسنادًا عسكريًا تمثل في إيصال السلاح وتدريب بعض الوحدات على الدفاع وتوفير قدر من المساعدات التي تعين على البقاء في ظل الحصار والجوع والنار ورغم كل ما قدمته حاولت بعض الأطراف المشبوهة تصوير هذا الدعم على أنه محاولة لنشر التشيع أو لتصدير الثورة الإسلامية إلى قلب أوروبا لكن الواقع أن الشعب البوسني بقي على هويته السنية ولم تتغير بنيته المذهبية لا قبل ولا بعد الحرب كما أن النخبة الإسلامية البوسنية في حينها تعاملت مع الدعم الإيراني كرافد ضمن شبكة دعم إسلامي أشمل لا كبديل عن خياراتها الداخلية ولم تستجب لأية ضغوط تغيّر من طبيعتها العقائدية أو الوطنية .إن قراءة الدور الإيراني في حرب البوسنة لا يمكن أن تنفصل عن السياق الأخلاقي والإنساني الذي أحاط بتلك المرحلة إذ كانت إيران تملأ فراغًا تسببت فيه القوى الكبرى بتخاذلها وكانت تحاول أن تقف في صف شعب مسلم يواجه الفناء دون أن تُطرح في ذلك الوقت حسابات المذهب أو الجغرافيا أو النفوذ الإقليمي كان الموقف موقفًا إسلاميًا وإنسانيًا بالدرجة الأولى وإذا كان للدول مصالح فإن من الظلم اختزال كل دعم في نوايا خفية أو مشاريع أيديولوجية دون النظر إلى حجم الكارثة التي كانت قائمة بالفعل
٣-كان الدعم الإيراني للمسلمين في البوسنة متعدد الأوجه وتكاملت فيه الأبعاد السياسية والعسكرية والإنسانية بحيث لم يكن مجرد موقف مؤقت بل مسار استمر لعدة سنوات وسط ظروف دولية معقدة وحصار خانق فرض على الحكومة البوسنية الناشئة في سراييفو ومنع عنها السلاح في الوقت الذي كانت فيه قوات صرب البوسنة تتلقى دعما مفتوحا من بلغراد ومن جهات أخرى
في الجانب السياسي عملت إيران على الاعتراف المبكر باستقلال البوسنة وسارعت إلى فتح سفارتها في سراييفو رغم الظروف الأمنية الصعبة وكانت من أبرز الدول الإسلامية التي استخدمت منابر منظمة المؤتمر الإسلامي والمحافل الدولية الأخرى للدفاع عن قضية البوسنة وفضح الجرائم الصربية بحق المسلمين كما لعبت دورا في حشد الرأي العام الإسلامي لمناصرة البوشناق سياسيا ودبلوماسيا والضغط من أجل كسر العزلة المفروضة عليهم
أما في الجانب العسكري فقد اتخذ الدعم الإيراني أشكالا مباشرة وغير مباشرة فبالرغم من الحظر الدولي المفروض على تسليح أطراف النزاع في البوسنة إلا أن إيران استطاعت إيصال كميات من الأسلحة والذخائر إلى القوات البوسنية عبر طرق سرية وعبر أراضٍ تسيطر عليها بعض الدول المتعاطفة كما أرسلت بعض المستشارين والخبراء العسكريين للمساعدة في التدريب والتهيئة الدفاعية وقد أكد مسؤولون بوسنيون سابقون أن طهران قدمت مساعدات عسكرية حقيقية أسهمت في تحسين قدرات جيش البوسنة الوليد في مواجهة قوات صربية كانت مدججة بالسلاح الثقيل والخبرة القتالية
وفي الجانب الإنساني كان لإيران حضور عبر مؤسسات إغاثية وجمعيات مدنية أرسلت المساعدات الغذائية والطبية إلى المدنيين في مناطق النزاع كما أنشأت مستشفيات ميدانية في بعض المناطق التي تتعرض للقصف وكانت تسعى لتوفير الحد الأدنى من الرعاية في ظل الحصار والجوع والبرد الذي فتك بآلاف الأسر البوسنية خلال شتاء الحرب القاسي كما يضاف إلى ذلك البعد الثقافي والديني حيث حاولت إيران إقامة بعض المراكز الثقافية بعد الحرب لكنها لم تحقق اختراقا واسعا في البنية المذهبية للسكان الذين ظلوا على انتمائهم السني التقليدي ما يدل على أن البعد الدعوي لم يكن له الأثر الحاسم كما ادعت بعض الأطراف بل إن الطابع الغالب لذلك الدعم ظل إغاثيا وقتاليا في سياق الدفاع عن النفس والبقاء وليس تغيير الهوية الدينية أو المذهبية وإذا ما قُورن الدعم الإيراني بمواقف بعض الدول العربية والإسلامية التي اكتفت بالخطابات أو بالمساعدات الرمزية فإن موقف إيران في تلك المرحلة كان لافتا على مستوى الفعل والتأثير وخاصة حين كانت العاصمة سراييفو ترزح تحت الحصار والقصف ولم تكن الكثير من العواصم الإسلامية تجرؤ على اتخاذ موقف عملي مباشر
في المحصلة لا يمكن إنكار أن لإيران مصالح وأهدافا مثل أي دولة في العالم لكن في حالة البوسنة تحديدا فقد تلاقت تلك المصالح مع واجب أخلاقي وديني تجاه شعب مسلم أعزل كان يواجه خطر الإبادة أمام أعين العالم وصمته
٤-في نهاية المطاف يمكن القول إن الدعم الإيراني لمسلمي البوسنة خلال الحرب لم يكن تفصيلا عابرا في سياق الصراع بل شكّل أحد أوجه المواجهة التي ساعدت الحكومة البوسنية الناشئة على الصمود في وجه آلة القتل الصربية وقد جاء هذا الدعم في مرحلة فارقة حين كانت الدولة البوسنية محاصرة دبلوماسيا ومعزولة عسكريا بينما كان خصومها يتلقون الدعم اللامحدود من دول إقليمية ودولية كبرى نجحت إيران في كسر بعض الحواجز التي فرضها الحظر الدولي على تسليح جيش البوسنة وأسهمت في نقل التجربة القتالية لبعض الوحدات إضافة إلى دعمها للحراك الدبلوماسي البوسني في المحافل الإسلامية والدولية كما ساعدت من خلال المؤسسات الإغاثية في تخفيف بعض الأعباء الإنسانية المترتبة على الحصار والجوع والتشريد الذي طال مئات الآلاف من المدنيين
لكن رغم هذا التأثير الميداني فإن النتائج السياسية للدعم الإيراني بعد الحرب لم تكن بحجم التوقعات فقد واجهت طهران تحديات حقيقية في دعم المسلمين هنالك دون ان تنظر للقضية الطائفية ضمن مجال دعمها بقدر ماكانت ترسيخ وتثبيت الوجود الإسلامي بغض النظر عن الطائفة داخل البوسنة وبعد توقيع اتفاق دايتون للسلام حيث بدأ الغرب بقيادة الولايات المتحدة بإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني في البلاد وفق توازنات تخدم المصالح الأوروبية الأمريكية وبرز في تلك المرحلة أدوار لبعض الدول العربية وتركيا التي ارتبطت بعلاقات ثقافية وتاريخية أعمق مع البوسنيين
كما أن البنية الدينية والثقافية في البوسنة ظلت محافظة على طابعها السني التقليدي وكان ذلك واضحا في استمرار التيار الإسلامي المحلي في البوسنة ضمن الإطار السني المعتدل دون تحولات مذهبية أو اصطفافات فكرية ورغم ذلك فإن موقف إيران خلال الحرب يبقى في نظر كثير من المراقبين موقفا استثنائيا بالمقارنة مع حالة التخاذل العربي والإسلامي العام فقد عبّر عن نوع من التفاعل العملي مع مأساة شعب مسلم في لحظة ضعف تاريخية وكان في مضمونه يحمل بعدا استراتيجيا وإنسانيا في آن معا ويصعب فصله عن موقع البوسنة كرمز من رموز الهوية الإسلامية في أوروبا إن تقييم الدعم الإيراني للبوسنة لا يجب أن يُبنى فقط على النتائج السياسية اللاحقة بل يجب النظر إليه أيضا من زاوية الواجب الأخلاقي الذي افتقده كثيرون في تلك المحنة ولعل ما يميز ذلك الدعم أنه جاء في لحظة لم يكن فيها كثير من الأطراف يجرؤون على تجاوز الخطوط الحمراء الدولية بينما كانت البوسنة تحترق وتستغيث ..