عندما ننظر في تاريخ مصر المكتوب على مدى الدهرِ، وتعاقُب العصور ستجابهنا بحكم العادة والشيوع مقولات أرى من الأهمية بمكان أن نتوقف عندها قليلاً أو كثيراً من مثل: ” مصر: هِبةُ النيل” و “مصر: عبقرية المكان” و”مصر: الأهرامات وثلث آثار العالم ” و”مصر أم الدنيا” و”قلب العالم” ومن ثم ” مصر مطمع الغزاة”.
حسنا؛ مادامت مصر هي كذلك؛ فلِمَ لمْ تكن : “مصر مطمعاً لأهلها”؟!.
فسيناء التي هي البلاد المباركة وأرض الفيروز هي أيضاً في ذات الوقت :” أرض الأشباح” و”الريح والرمال ” و” مخلفات الألغام وروائح الدم والبارود”، حتى نصل إلى عنوانها العريض الحالي ” كوطنٍ خالٍ من أهله ومواطنيه” تفعيلاً لاتفاقيات سلام كامب ديڤيد المريبة.
حتى لقد صار العسكر و الحرامية وقطاع الطريق، ومطاريد الجبل فيها – الآن – أكثر من السكان المدنيين والمواطنين الأصليين!.
حتى قال المؤرخون والمتخصصون: إن المركبات الحربية وجنازير الدبابات التي داست تراب هذه الأرض الطيبة – قديماً وحديثاً – لهي أكثر من إطارات الكاوتشوك وأقدام الإنسان وحوافر الحيوان!.
وعند هذا الحدّ نتساءل: هل يُفْهَم من ذلك كله أنّ الإنسان المصري هو الآن على حالٍ من الغِنى يجعله قنوعاً بما لديه دون بذل المحاولات لإصلاح واستزراع ما خرّبته الحرب في تلك المساحة الشاسعة من أرضه؛ أم أن قيود كامب ديفيد مازالت مُكبِّلَة أياديه عن البناء والتعمير؟ أم أن المصري شخصٌ كسول بطبعه إلى الحد الذي يجد عنده أن قيمة الكسل أكبر حتى من قيمة الحرية التي يفقدها مع كل احتلال جديد لمستعمر جديد لأرضه المنتهكة وترابه المستباح في سيناء مرة بعد مرة؟
بالتأكيد الإنسان المصري لم يصل بعد إلى حدّ القناعة بما لديه من فقر وعوز، والإحصاءات موجودة في كل مكان وعلى عينك يا تاجر وبضغطة زر واحدة ينكشف المحجوب وينفضح المستور، إن كان ثمة في هذا العالم مستور..
ـ ولا يمكننا في ذات الوقت أن نعتمد فكرة أن المصري يُعلي من قيمة الكسل والخنوع للمحتل على قيمة الحرية، بدلالة أن كل المستعمرين السابقين قد أُجْلوا عن البلاد ولم يبق من أرض مصر الآن شبرٌ واحدٌ مُحتل؛ فمصر على كل حال وحسب مأثور الأقوال: “مقبرة للغزاة”.
هنا علينا أن نعود مرة أخرى للسؤال: لماذا لا تكون “مصر مطمعاً لأهلها”؟
و نقصد هنا : خيرات مصر ..
فإذا كان لمصر دائماً وَصفُ “عبقرية المكان” و”عراقة الأصل” و “عظمة التاريخ”
إذن أين مكمن المشكلة في هذا التخلف والتردِّي والتراجع الحاصل على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية الآن، وحتى الأدبية والثقافية والفنية والعلمية ؟
إنه وبلا شك “التنظيم” ..
وإن شئت قل “عدم التنظيم”
ولكن التنظيم في أي دولة ـ مَنٍ الذي يقوم به؟ ـ بالتأكيد يقوم به الحكومات ..
إذن مكمن المشكلة في التخلف والتراجع والتردّي هو في التنظيم والإدارة والسياسات الفاشلة التي تعتمدها الحكومات المتعاقبة منذ الأزل وعلى مدى تاريخ الدول..
الأمر في ما يخص مصر جِدُّ عجيب ..
أقول و بحق؛ أنّ مصر “الأمة والحكومة” تاريخها رغم طوله وعرضه، وعمقه وأهميته وثرائه إلا أنه مثير للمشاعر والأفكار والاستنتاجات المتناقضة طوال الوقت!!
وحتى نكون أكثر وضوحاً وتحديداً
ندخل إلى الموضوع من خلال سؤال واحد الآن، نصوغه محدداً كالتالي:
هل تاريخ مصر العظيم هو تاريخٌ للدولة كحكومة ومؤسسات ـ أم هو تاريخ أفراد فرادى، أم فرق وجماعات قليلة منظمة أوغير منظمة من المصريين؟
الحقيقة؛ أنّ ذلك التاريخ الذي نراه ويراه العالم معنا تاريخاً عظيماً لمصر ـ هو ليس في حقيقته تاريخاً لمصر؛
بل هو مجموع تراكمي من فعاليات واجتهادات وإنجازات حقيقية لأفراد يعيشون على أرض مصر؛ وليس في حقيقته إنجازاً حقيقياً لحاكميها ومدبري أمرها بدءًا من هامان وفرعون وقارون ، وحتى كاتب هذه السطور.
تعالوا لنرى أولاً ما الفارق بين مفهومَي الأمة المصرية من ناحية وحكوماتها المتعاقبة من الناحية الأخرى؟
ـ ولنرى الفارق بين تاريخ مصر الكيان السياسي والنظام من جهة، وتاريخ المصريين الأصليين وحتى الوافدين المستقرين على أرضها من جهة أخرى، إن كان ثمّة فارق :
يقول أوسط التعريفات:
” أنّ الدولة: هي مجموعة من الافراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الافراد فيها”
و يقولون: “أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة”
وفي التعريف البسيط لـ ” المصريين” : “المصريون هم: مواطنو مصر في اللحظة المعينة”
ونقول في تعريف ” مصر” كمكونات: “مصر هي: المصريون، والأرض والنظام الحاكم”
فهل بعد استحضار وتَفَهُّم مثل هذه التعريفات والمفاهيم يؤون لنا ويجدر بنا أن نسأل هذا السؤال : هل حققت الدولة المصرية” بتفاعل مكوناتها” إنجازاً حقيقياً عظيماً و رائداً على مدى الـ 7000 عاماً السابقة؟
هل كل ما تحقق من إنجازات عظيمة على أرض مصر ـ في القديم أو الحديث ـ هل كانت الحكومات المتعاقبة تشرف عليه وترعاه ـ بالفعل ـ وتهدف من ورائه التقدم والازدهار لعموم البلاد، وتحسين حياة الأفراد والعباد؟
ـ أم أنها كانت في معظمها محض اجتهادات وإنجازات فردية تبنّتها الحكومة بعد أن فرضت تلك الإنجازات عظمتها وأهميتها على كل المحافل المختصة والمؤسسات ـ ذات الصلة ـ في الخارج قبل الداخل؟!
وهل كان في أي وقت من الأوقات ولأي حكومة من الحكومات خطة تقول: سأنجز عملا قومياً عظيماً “اسمه كذا” على غرار بناء الأهرامات أو حفر القناة في زمن يستغرق عمر هذه الحكومة وعمر عدد من الحكومات تأتي من بعدها – مثلاً؟!
هل لو دخلنا مثلا في أي وقت من الأوقات على أي وزارة من الوزارات – هل يمكننا مثلاً أن نجد مخططاً أو حتى تصوراً لشكل خريطة مصر السكانية أو الزراعية بعد 20 عاماً على سبيل المثال؟!
ـ بل لا أبالغ إن قلت أننا لن نجد حتى مخططاً لتصريف المياه لو أمطرت السماء فجأة في أي منطقة من البلاد دون أن تستأذن السلطات !
ـ ولا حتى لدينا طريقة عاجلة وتلقائية لمواجهة بلطجي واحد يقطع طريقاً عاماً ” ولا أقول حارة ضيقة” في أيّ وقت من النهار “ولا أقول في جُنح الظلام” !!
إننا ـ مثلاً ـ على مدى التاريخ القديم وعلى صعيد الحكام البارزين والمؤثرين في التاريخ ليس لدينا أظهر و لا أشهر من فرعون موسى
ذلك الفرعون الذي كان يمثل رأس الدولة ويدَّعي ربوبيته لجميع شعبه
هل هذا الرجل “الملك” جاءت شهرته على مبدأ أنه صنَعَ التاريخ العظيم؟
أم أنه هو مَن كان العامل الأساس على إعاقة سير التاريخ؟!
ومن عهد فرعون موسى وحتى ثورة يوليو عبد الناصر
هل على مدار التاريخ كان لمصر حاكمٌ مصريّ حقيقيّ واحدٌ قبل نجيب وعبد الناصر؟
لا ندري على وجه اليقين، ولكن من عجيب ما ندريه أنّ مصرَ قد تناوب على حكمها أشكال وألوان من الحكام والحكومات غير المصرية وغير العربية وغير الإسلامية، بل وحتى أنّ العبيد المماليك حكموها في فترة من الفترات، كما حكمها أصناف من العصابات و قطاع الطريق علاوة على مختلف المهاجرين إليها والمارين بها وحتى عُمّال التراحيل !!
وحتى عندما أنجز المصريون ثورتهم التي جاءت بأول حاكم مصري للمصريين في يوليو 1952 ؛ لم يكن هذا الإنجاز في حقيقته سوى حركة بطولية لأشخاص من المصريين معدودين، و معروفين بالاسم والوصف، ثم تعاطف معهم جموع الشعب المصري بعد ذلك فاعتبرناها ثورة وإنجازاً..
وفي المقابل من ذلك “ونحن لازلنا في دراسة تلك المرحلة من تاريخ مصر المعاصر” نتساءل: هل ما لحق بالدولة المصرية وجيشها الوطني من هزائم تلو الهزائم سواء قبل الثورة في 1948 أو بعدها في 1956 أو في يونيو 1967 هل عُدَّ ذلك هزيمةً في حق الشعب الذي تصادف أنه يقطن تلك الأرض في ذلك الوقت، أم هي هزائم للدولة متمثلة في حكومتها و مؤسساتها و نظمها وإدارتها؟
ثم ـ وفي المقابل ـ هل كان أول انتصار لنا على الدولة الصهيونية المغتصبة للأرض العربية في أكتوبر 1973 ـ هل كان نصراً عظيماً محسوباً لقيادة وحكومة البلاد جديراً بالبقاء طويلاً على صفحات التاريخ ؟
ـ أم أن القيادة السياسية والعسكرية لمصر قد أبَت بعدها أن يتم لها ولوطنها ولو نصرٌ واحدٌ ـ كهذا النصر العظيم؛ فراحت تستجدي أرضها المسلوبة ؛ بدعوى السلام القائم على الاستسلام البطولي الذي أدى الدور الأكبر فيه رئيس الدولة آنذاك أنور السادات بعد نصر العبور بقليل من السنوات؟!
و كما خسرت قيادة مصر وحكومتها فرصة البلاد في هدم أركان دولة الفساد و الهمجية والاغتصاب لأراضي الغير المتمثلة في الكيان الصهيوني التوسعي ـ خسرت مصر أيضاً من بعدها كل معارك البناء والإعمار واستصلاح الأراضي، بعد أن فشلت في تحقيق أدنى درجات التنمية والنهوض ..
و لنا في “توشكا مبارك” خير دليل على ذلك بعد أن باعونا الوهم على مدى سنوات
لم نجنِ منها غير شعارات ومزايدات، وصياحات وهتافات “توشكا” .. “توشكا” .. “حيّوا توشكا .. غنوا لتوشكا” !!
وفي النهاية صحا الجميع على الجميع يتساءل:
أين هي توشكا ـ وفي أي صَوبْ؟!
لازال المصريون يعانون شظف العيش منذ دهر ولا أدري حتى متى
ولازالت جُل الأراضي في مصر صحراء جرداء صخرية لا تصلح لزرع أو رعي، كما أن الدولة المصرية منذ عقود وهي إذ تتحدث عن التحديث والميكنة و التصنيع تقوم في ذات الوقت بخصخصة كل ما تطاله يداها من مصانع ومعامل القطاع العام والقطاع الحكومي على مستوى عموم الدولة في عهد المخلوع حسني مبارك .
ربما المشروع الوحيد القومي الذي يمكن اعتباره إنجازاً محسوباً محسوساً هو بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي في عهد الرئيس عبد الناصر حسين.
أمّّا إذا ما تأملنا في الشخصيات المصرية التي نقلها لنا التاريخ المصري:
فسوف نلاحظ أن كل مَن ورد أسماؤهم وصورهم في كتاب سنة رابعة وخامسة ابتدائي وحتى نهاية المرحلة الجامعية جُلهم تقريباً ليست لهم بطولات حقيقية؛ غير أن بعضهم نراه يركب أحصنة على نُصب عالية في بعض الساحات العامة بالمدن المصرية، وبعض تلك التماثيل لازال يقف في الميادين صاغراً جامداً أعزلَ لا يدري ماذا يفعل – إذ لا شيء يظهر على التمثال يحكي أنّ صاحبه كان عالماً متخصصاً في شيء أو بطلا في شيء!!
وعلى الجانب الآخر هناك مصريون مبدعون وأبطال حقيقيون إلا أنهم يظلون يمثلون أنفسهم والطبقة الشعبية التي جاؤوا منها؛ فإنهم لا يمثلون الدولة بأي حال من الأحول حيث أن بطولاتهم جاءت على حساب الدولة نفسها و حكامها.
فلنتذكر مثلا أدهم الشرقاوي فلم يأت ذكره في كتب التلاميذ في المدارس
لأنه كان بطلا حقيقياً شعبياً بل وكانت ثورته هي على حكومة ذلك الوقت.
سليمان خاطر قاتل الصهاينة الذين تخطوا حدودهم المكانية والأدبية
تعتبره الدولة هو وما فعله عملاً إجرامياً استحق عليه صاحبه الحبس، و ربما القتل.
ولننظر مثلا الشاعر العظيم “أمل دنقل” أين كان طوال حياته ؟
كان بين الزنازين والمستشفيات حتى توفاه الله فقامت الحكومة من بعدها تتلقى فيه التعازي وتفتح له صفحة في التاريخ، و تدرجه ضمن مجموعة المجدِّدين في الشعر العربي بعد موته!!
وهو الذي عاش ومات مع المغضوب عليهم من الدولة “حكومة وأجهزة ومؤسسات” ولم يسمع المواطن المصري العادي عنه أي شيء أو يقرأ له أيّ قصيدة إلا بعد موته؛ حتى أن قصيدته العظيمة (لا تُصالح) لم يُطلق سراحها ويُكتب لها الذيوع إلا بعد موت المُخاطب ، وموت كاتبها ، وموت الضمير الذي كان بالفعل قد صالَح!.
ثم نذهب إلى ساحة الفن والغناء مثلا؛ فالدولة لم ترعَ المواهب يوماً ما بصورة جدية
حتى أنها كانت تناوئ المبدعين منهم وتنفيهم حيناً وتمنعهم من السفر أحياناً أخري ولنا في قصص الشيخ إمام و أحمد فؤاد نجم أمثلة بليغة في كيف كانت الحكومات تتعامل مع أصحاب القامات في فنون الشعر والغناء .
الدولة حقاً لا ولم ترعَ الفن في يوم ما :
فأشهر الفرق الشعبية في مصر والعالم العربي للرقص الشعبي كفرقة رضا مثلاً كانت فرقة خاصة “منذ نشأتها وحتى وصلت إلى قمة نجاحها”
حتى عندما سنتحدث عن عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وسيد درويش وأم كلثوم وما شابههم؛ فكلهم تميّزوا وأصبحوا مشاهير” وصنعوا تاريخاً من الفن والإبداع لمصر والعرب” بمواهبهم واجتهاداتهم الشخصية المستقلة المنفردة عن الدولة، ولم يتخرجوا من “مؤسسة لرعاية المواهب “، بل أنّ بعضهم كان قد تَخَرّجَ من “ملاجئ للأيتام”!.
وحتى في المجال الرياضي؛ لن تجد لمصر تميُّزاً كبيراً سوى في مجالات الرياضة الفردية التي تعتمد أساساً على الشخص دون تَدَخُّل من الدولة في خططٍ للدعم أو التدريب والارتقاء ولا غير ذلك ..
فلننظر إلى كل الميداليات الذهبية والفضية في كل تاريخ الأوليمبيات العالمية التي سُجِّلت بسم مصرـ سنجدها جميعا في ألعاب فردية كالملاكمة وبعض أنواع المصارعة، و بعض الأوزان في رفع الأثقال، وكمال الأجسام والسباحة الفردية ومشابه ذلك.
أما على مجال الألعاب الجماعية، فسنجد أنه كلما اهتمت الدولة ـ بشكل أكبر ـ بلعبة من الألعاب الجماعية؛ فإن الفشل عادة ما يكون هو النتيجة النهائية؛ والسبب هو غياب التخطيط العلمي لدى الحكومة بل وعدم وجود رؤية شاملة ومحيطة وبعيدة المدى..
فلننظر على لعبة كرة القدم على سبيل المثال ورغم إنفاق الدولة عليها و ببذخٍ فإن مصر لم تحقق أي مرتبة عالمية متقدمة واكتفت بالبطولات الإقليمية والقارية، بل وحتى تلك الانتصارات القارية كبطولات أمم أفريقياً مثلا فإن النتائج الجيدة فيها كانت مرتبطة أيضاً ودائما بأسماء بعينها سواء كلاعبين متميزين أو مدربين قديرين.
وكان المفروض أن كل هذه الإخفاقات الحكومية تكون كفيلة أن تردع الحكومة عن أي فكرة لاستضافة فعاليات أيّ ملتقى رياضي أو مونديال عالمي، إلا أن الحكومة المُغَيَبة لم تعرف قدر نفسها وتقدمت بطلب لاستضافة أحد مونديالات كرة القدم العالمية قبل سنوات، فكان طبيعياً أن تتلقى صفعة مدوية عندما تم الاقتراع على الدولة الأنسب لاستضافة ذلك المونديال الكبير و لم يحصل ملف مصر على أي صوت من أصوات المقترعين!..
وعظيمة يا حكومة مصر!.
وفي مجال الأدب فحدِّث ولا حرج؛ فلدينا دائماً عديد المواهب يصل مستواهم إلى العالمية ولا يجدون من الحكومات المتعاقبة مَن ينظر إليهم ويمدّ إليهم يد العون .
وفي مجال العلوم، فإن كل مراكز البحوث العلمية في مصر لم يُمكنها يوماً أن تحتوي عالماً من أمثال د. مصطفي السيد ، د. مشرفة، د. عصام حجي ، د. فاروق الباز، د. مجدي يعقوب وغيرهم الكثير ممَنْ برعوا ككفاءات فردية لم تستطع العمل من خلال فرق ومراكز بحثية مصرية فهاجروا ليبحثوا عن ذلك في جامعات ومؤسسات الدول الغربية!!
ولنا في قصة العالم الدكتور أحمد زويل مع الدولة المصرية الحكمة والعبرة.
فقد تخلت عنه كل الجامعات المصرية، ولم تقبل حتى بتوظيفه كموظف من ملايين الموظفين في جهازها الإداري أو كوادرها التعليمية ـ فراح من بعدها يحقق مجده العلمي العالمي في أمريكا والعالم، بكل الترحاب والاحتضان من كل مؤسسات العالم المختصة..
كل هذا ومصر الدولة والحكومة لا تلتفت إلى المبدعين أو تنسبهم إليها إلا بعد أن يحتضنهم العالم وينسبهم إليه ويمنحهم الجنسيات وحقوق الإقامة والعمل والإبداع، ويُكرّمهم على الإنجاز.
ثم نأتي ـ الآن ـ إلى الشأن الاقتصادي، ومعه الاجتماعي ؛ لنرى أعظم هدف يُفترَضُ أن تكون قد خططت له الدولة المصرية؛ ألا وهو الاكتفاء الذاتي من الماء والغذاء والدواء، وتوفير السكن والمأوى لكل فرد ..
فماذا كانت النتيجة؟
مصر تدخل الآن ضمن تصنيف الدول الفقيرة مائياً في الوقت الذي تقف فيه عاجزة عن ردع الدول التي ما انفكت تبني السدود أعلى منابع النيل، ولا يصلها من حصتها في المياه سوى القليل الذي صارت به “هبةُ النيل”- فراحت تستجدي الآن الماء من غَيمِ السماء، ويرزح أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر، وتسكن الطبقة العريضة من الشعب في العشوائيات، وحتى في مدافن الأموات!.
ونختتم هذه الجولة السريعة في تاريخ مصر بالانتقال إلى ثورة 25 يناير
لنتعجب مليّا كيف أن الدولة المصرية اعتبرتها ثورة شعبية وقد بدأت بعدد غير كبير من الشباب من الجنسين معروفين كذلك بالاسم والعدد، ولم يكن هناك ثورة بالفعل في يوم 25 يناير؛ لكن التعاطف الشعبي بدأ من يوم الثامن والعشرين من نفس الشهر من عام 2011 ..
ثم أنها وبحقّ أصبحت ثورة عظيمة وعبقرية بعد ذلك بالفعل عندما انضم إليها جُلّ الشعب المصري، ورغم أن الثورة كانت أصلاً على الدولة والحكومة إلا أن نفس تلك الدولة العميقة وحكوماتها المتعاقبة تعتبر الثورة نصراً عظيماً لها ، و بطولة تاريخية مصرية تُسجّل لها !!.
وإمعاناً في هذا التزوير للتاريخ قامت الحكومة المصرية بحبس واعتقال النشطاء والأبطال الحقيقيين رموز ثورة يناير؛ ولا أدري لماذا يعتقلونهم ويعذبونهم وينكلون بهم كل هذا التنكيل ؟
ـ هل لأن الثورة إنجازٌ حكوميّ “حصريّ” عظيم؟!
أم أن الثورة كانت عظيمة، لكن أبطالها كانوا مجرمين؟!!
بالفعل بطولات كثيرة وكبيرة تتحقق على أرض مصر وتسطر التاريخ؛ إلا أنها في معظمها بطولات شعبية فردية أو جماعية، وليست بحالٍ من الأحوالِ بطولات تاريخية للدولة العميقة والحكومة المصرية.
فقد كانت تلك الصولات الجهادية العظيمة بالأساس هي نتيجة ثورة الشباب الوطني الحرّ على رموز الدولة العميقة والحكومات المتعاقبة الفاشلة ..
ألا ساء ما يصنعون !!
أيّ تزييفٍ هذا بل وأيّ تزوير وغمط للتاريخ عندما يكتبه أولئك المنهزمون الفاشلون على مرّ وتعاقب الحكومات في مصر العربية، هبة النيل، ومهد الحضارة، وأُمّ الدنيا؟!.
أديب وكاتب رأي مصري