خاص: قراءة- سماح عادل
يكمل الكتاب الحكي عن أسرار الدين في الحضارة اليونانية والذي كان له ثلاث مراحل رئيسية: مرحلة أرضية، ومرحلة أولمبية، ومرحلة صوفية. وذلك في الحلقة الثانية عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
أسرار الدين..
يحكي الكتاب عن أسرار الدين في الحضارة اليونانية: “لقد كان في دين اليونان ثلاثة عناصر وثلاث مراحل رئيسية: عنصر أرضي ومرحلة أرضية، وعنصر أولمبي ومرحلة أولمبية، وعنصر صوفي ومرحلة صوفية. أول العناصر وأولى المراحل من أصل بلاسجي- ميسيني، وأن ثانيهما وثانيتهما من أصل أخي- دوري، وثالثهما وثالثتهما من أصل مصري- أسيوي.
وكانوا يعبدون في المرحلة الأولى آلهة تحت الأرض وفي الثانية آلهة سماوية وفي الثالثة آلهة بعثت بعد الموت. وكانت العبادة الأولى أكثر انتشارا بين الفقراء، والثانية بين الأغنياء، والثالثة بين الطبقة المتوسطة- الدنيا. وسادت العبادة الأولى قبل العصر الهومري والثانية في أثنائه والثالثة بعده. ولم يكد يحل عصر الاستنارة في أيام بركليز حتى كان التخفي أقوى العناصر في الدين اليوناني”.
التخفي..
وعن طقوس سرية دينية يواصل الكتاب: “والتخفي عند اليونان احتفال سري يكشف فيه عن رموز مقدسة، وتقام فيه طقوس رمزية، لا يتعبد بها إلا المطلعون على أسرارها. وكانت هذه الطقوس في العادة تمثل تعذب إله من الآلهة وموته وبعثه، أو تحيي ذكرى هذا العذاب والبعث والموت بطريقة شبه مسرحية، وتسير إلى موضوعات زراعية قديمة وإلى ضروب من السحر، وتعد أولئك المطلعين حياة أبدية خالدة.
وكانت أماكن كثيرة في بلاد اليونان تمارس هذه الطقوس الخفية، ولكن ما من مكان كان يضارع إلوسيس من هذه الناحية. وكان ما فيها من الطقوس موروثا من عهد ما قبل الآخيين، ويبدو أنها كانت في الأصل احتفالاً في الخريف بالحرث والزرع. فقد كانت ثمة أسطورة تقول إن دمتر أرادت أن تكافئ أهل أتكا لعطفهم عليها في تجوالها فأقامت في إلوسيس أعظم هيكل من هياكلها، ثم هدم هذا الهيكل وأعيد بناءوه مرارا كثيرة خلال تاريخ اليونان.
ودخيل عيد دمتر في أيام أثينة صولون وبيسستراتس وبركليز، وازداد فيها عظمة وفخامة، وكان طلاب الأسرار الصغرى التي تقام في فصل الربيع بالقرب من أثينة يتطهرون أولا بأن يغمروا أنفسهم في ماء إليسس، فقد كان الطلاب وغيرهم من الناس تحجون سيرا على الأقدام في وقار وجزل مدى أربعة عشر ميلا في الطريق المقدس إلى إلوسيس يحملون فوق رؤوسهم صورة الإله الأرضي ياكوس حتى إذا ما وصل الموكب إلى إلوسيس في ضوء المشاعل ووضع صورة الإله في الهيكل وسط مراسم التعظيم والإجلال، قضوا ما بقي من اليوم في الرقص والغناء المقدسين.
تلك هي الأسرار الصغرى، أما الأسرار الكبرى فكانت تدوم أربعة أيام أخرى، وتبدأ بإدخال من تطهروا في الأسرار الصغرى بالاستحمام والصوم، أما الذين مارسوا هذه الطقوس في مثل ذلك الموعد من العام الماضي فكانوا يؤخذون إلى بهو الاندماج في الجماعة السرية، حيث يكون الاحتفال السري. وهناك يفطر المبتدئون الصائمون بأن يتناولوا عشاء ربانيا مقدسا إحياء لذكرى دمتر، ويشربوا مزيجا مقدسا من دقيق الحنطة والماء، ويأكلوا كعكا مقدسا”.
مسرحية رمزية..
وعن طبيعة الاحتفال السري: “ولسنا نعلم أي طقوس خفية كانت تحدث في ذلك المكان، فذلك شر ظل خافيا خلال التاريخ القديم كله، وكان محرما على أي إنسان أن يبوح به وإلا تعرض للقتل. ولقد نجا إسكلس التقى نفسه من حكم الإعدام بأعجوبة لأنه كتب بضعة أسطر ظُن أنها قد تكشف السر. وكل ما نستطيع أن نقوله أن الاحتفال كان عبارة عن مسرحية رمزية لها أثر في إحياء مسرحية ديونيسس، وأكبر الظن أن موضوعها كان اختطاف بلوتو لبرسفوني، وتجوال دمتر الحزينة وعودة الفتاة العذراء إلى الأرض، والكشف لأتكا عن أسرار الزراعة.
وكانت خلاصة الاحتفال هي زواج خفي بين كاهن يمثل زيوس وكاهنة تمثل دمتر، وكان هذا الزواج الرمزي يثمر ثمرته بسرعة سحرية عجيبة، فقد كان يعقبه بعد قليل على ما ينقله لنا المؤرخون إعلان صريح بأن “سيدتنا قد وضعت غلاما مقدسا؛ ثم تُعرض على الناس سنبلة من الحب ترمز إلى الثمرة التي تمخضت عنها دمتر- نتاج الحقول، ثم يخذ العابدون في ضوء المشاعل الشاحب إلى كهوف مظلمة تحت الأرض تمثل الجحيم، يرفعون بعدها إلى حجرة عليا تتلألأ فيها الأنوار وتمثل، على ما يظهر، مسكن الصالحين؛ وفيها تعرض عليهم وسط مظاهر التعظيم والتكريم الآثار أو الصور والتماثيل المقدسة التي ظلت إلى تلك الساعة مخفية عنهم، ويؤكد العارفون أن هؤلاء المبتدئين كانوا وهم في نشوة هذا الإلهام المقدس يحسون بوحدتهم هم والإله ووحدة الإله والروح، وأنهم قد انتشلوا من أوهام الفردية، وأدركوا طمأنينة الاندماج في الألوهية.”
تجدد الحياة..
وعن استئناف الحياة يضيف الكتاب: “وفي عصر بيسستراتس دخلت أسرار ديونيسس في الطقوس الإلوسينية عن طريق عدوى دينية إذا صح هذا التعبير، وذلك أن الإله ياكوس قد وحد هو وديونيسس، وقيل أنه هو ابن برسفوني، وطغت خرافة ديونيسس زجريوس على أسطورة دمتر. ولكن الفكرة الرئيسية في هذه الطقوس نفسها، وجوهر هذه الفكرة هو أن الموتى يمكن أن تتجدد حياتهم كما أن البذرة تولد مرة ثانية، ولم يكن يقصد بحياتهم هذه حياة الأشباح النكدة في الجحيم، بل يقصد بها حياة ملؤها السعادة والطمأنينة.
ولما زال كل ما عدا هذه الفكرة من الدين اليوناني، ظل هذا الأمل يعمر القلوب وامتزج في الإسكندرية بعقيدة الخلود المصرية التي هي أصل العقيدة اليونانية، فكان هو السلاح الذي غزت به المسيحية العالم الغربي.
وجاءت إلى بلاد اليونان في القرن السابع طقوس دينية صوفية أخرى من مصر وتراقية، وتساليا، وكانت هذه الطقوس أجل خطرا في تاريخ اليونان من طقوس إلوسيس الخفية نفسها”.
صوفية..
وعن الطقوس الصوفية: “ونجد في بداية هذه الطقوس في عصر ركاب السفينة أرجوس شخصا غامضا ولكنه مع ذلك جذاب فتان، ذلك هو أرفيوس التراقي الذي يصفه ديودور بأنه لم يكن يدانيه أحد ممن نعرف أسمائهم من الرجال في الثقافة والموسيقى والشعر، ونرجح كثيرا أن أرفسوس هذا كان شخصا حقيقيا، وإن كان كل ما نعرفه عنه يمت بسبب إلى الأساطير. فهم يصورونه لنا بصورة الرجل الظريف، المفكر، العطوف، وهو تارة موسيقي، وتارة كاهن زاهد من كهنة ديونيسس. وكان بارعا في العزف على القيثارة وفي الغناء عليها براعة افتتن بها سامعوه حتى كادوا أن يتخذوه إلها يعبدونه
وكانت الوحوش إذا سمعت صوته خرجت عن طبيعتها واستأنست، بل إن الأشجار والصخور كانت تغادر مواضعها لتستمع إلى نغمات قيثارته. وتزوج أرفيوس من يريديس الحسناء، وكاد يجن حين قضت نحبها. فما كان منه إلا أن قفز إلى الجحيم وسحر برسفوني بقيثارته، وسمح له أن يُعيد يريديس إلى الحياة على شريطة أن لا ينظر إليها حتى يصلا إلى سطح الأرض.
لكنه لم يطق صبرا على هذا وخشي ألا تكون من ورائه، فنظر إلى الوراء عند آخر حاجز بينه وبين سطح الأرض، فرآها تختطف مرة أخرى ويقذف بها إلى العالم السفلي. وحقدت عليه نساء تراقية لأنه أبى أن يسلي نفسه معهن فمزقنه إربا في نشوة من نشواتهن الديونيسية. وكفر زيوس عن ذنبهن بأن جعل قيثارة أرفيوس كوكبة من نجوم السماء . ودفن رأسه وهو لا يزال يغني في لسبوس في شق صار فيما بعد مهبط وحي. ويقولون إن البلابل في هذا المكان كانت أرق وأحلى صوتا منها في أي مكان آخر.
وقيل في العصور المتأخرة إنه خلف وراءه كثيرا من الأغاني الدينية؛ وليس ببعيد أن يكون هذا صحيحا، وتقول الرواية اليونانية المتواترة إن عالماً يدعى أونومكريتوس نشر هذه الأغاني في عام 520، كما نُشرت القصائد الهومرية قبل ذلك بجيل من الزمان”.
أغاني مقدسة..
وعن الأغاني المرتبطة بالطقوس الدينية: “وفي القرن السادس أو قبله كانت هذه الأغاني قد أصبحت ذات طابع مقدس، وقيل إنها قد أوحيت إلى صاحبها كما أضحت أساسا لطقوس دينية صوفية ذات صلة بطقوس ديونيسس، ولكنها تعلو عليها كثيرا فيما تنطوي عليه من عقائد دينية وفي طقوسها وأثرها الخلقي. فأما العقائد الدينية فقد كانت في جوهرها توكيداً لعذاب ديونيسس زجريوس الابن المقدس وموته وبعثه، كما كانت تؤكد أيضاً أن الناس جميعا سوف يبعثون في حياة مستقبلة يثابون فيها على أعمالهم أو يعاقبون عليها.
وإذا كان الاعتقاد السائد أن الجبابرة الذين قتلوا ديونيسس هم الذين تناسل منهم الآدميون، فقد كانت البشرية كلها ملوثة بشيء من الخطيئة الأولى، وكان عقابها على هذه الخطيئة أن الروح تسجن في الجسم كأنها في سجن أو قبر، ولكن في وسع بني الإنسان أن يعزوا أنفسهم بأن يعرفوا أن الجبابرة قد أكلوا ديونيسس، وأن كل إنسان ينطوي لهذا السبب في روحه على جزء من الألوهية الخالدة، وكان عباد أرفيوس يتناولون في عشاء رباني جماعي لحم ثور نيئا، يمثل في اعتقادهم ديونيسس، إحياء لذكرى قتل الإله وأكل لحمه وامتصاصا للجوهر المقدس من جديد”.