30 يونيو، 2025 11:15 م
قد يثير عنوان المقال الضحك او ربما السخرية والاستنكار من البعض..
ربما لأننا ما زلنا أسرى لفكرة أن القوة تعني العضلات، والسلاح، والضجيج فقط. متناسين ان في عالم السياسة، كما في الطبيعة، الأقوى هو من يبقى ويستمر بصمت مثل الفايروسات، وليس من يصرخ ويملئ الدنيا ضجيجا مثل الداينصورات..
خذوا الدجاج مثلًا، لم يملك يوماً مخالب او انيابا او حتى سما زعافا كالافاعي والعقراب، لكنه انتصر وانتشر في معركة البقاء. لم يخض حربا ولم يصنع عداوات مع هذا او ذاك، لكنه احتل الكوكب. عدد الدجاج حاليا حسب اخر الاحصائيات حوالي ٣٥ مليار دجاجة في مقابل ٨ مليار انسان…
ماذا فعل الدجاج لكي يغزو الارض بهذه الاعداد الهائلة؟ لا شيء يستحق الذكر. فقط، وببساطة، استطاع ان يجعل من نفسه مطلبا في كل مطبخ, قدم للإنسان ما يشتهيه، مقابل ان يحرسه ويربيه ويضمن له البقاء والتكاثر.
الآن، فلننظر إلى السياسة الدولية بعدسة الدجاج.
دول صغيرة، بلا جيوش جرارة، ولا مصانع دبابات، ولا طموحات نووية… لكنها تحاط بعناية الكبار، تحمى، وتزار، وتدعى إلى القمم العالمية، لأنها تقدم شيئا يرغب فيه الأقوياء.
خذ دول الخليج،مثلا:
 قدمت النفط والمال. فحظيت بالحماية والدلال والدعم السياسي، وهي راضية بهذا الامر حتى وإن استغلت مواردها، وهي تدرك ان ما تدفعه “للبودكارد الامريكي” شيئ لا يقارن في مقابل ما تحصل عليه من امن واستقرار .
كذلك سويسرا لم تصرف اموالها على سباق التسلح، ولم تجند الجيوش ولم تصنع عداوات مع هذا ذاك ولم تدخل حروبا، لكنها قدمت نظاما مصرفيا محكما لكل لص، وسياسي، ومهرب دولي… فصارت “مركز الثقة” في عالم بلا ثقة.
أما الدول الإسكندنافية، فقد اختارت درب الدجاج الحكيم ايضا، لم تصرخ، لم تشترِ السلاح لتخيف أحدا، لم تتباه بعضلات فارغة، بل التزمت الصمت المدروس. تنازلات سيادية ناعمة هنا وهناك، صفقات غير مرئية مع الدولة العميقة في أوروبا، وعلاقات دافئة مع أمريكا، في المقابل، حصلت على ما هو أثمن، أمان، رخاء، تعليم، وضرائب عادلة تصنع مواطنا واثقا. وفي صمتها الناعم، كانت تقول للعالم: “نحن لا نناطح… لكننا لا ننهزم، ولا نغزو… لكن الجميع يريد العيش مثلنا.
لناخذ مملكة الأردن أيضًا كنموذج آخر يطبق طريقة الدجاج في التعامل مع محيطها الملتهب على الدوام. فهي لا تملك ترسانة نووية، ولا جيشًا يرعب الجيران، لكنها ظلت واقفة في أخطر بقعة في العالم، محاطة بالحرائق من كل جانب،
ومع ذلك لم تشعل حربا، ولم تسقط في فوضى. أتقنت فن المشي بين الألغام، وبدل أن ترفع شعار “الردع”، رفعت شعار “الاحتواء”. قدّمت تسهيلات هنا، وتنازلات هناك وصمتت حين يستوجب الصمت. فتحوّلت إلى وسيط موثوق،
وحافظت على شعرة معاوية مع الجميع، من واشنطن إلى طهران.
كأنها تقول:
“لسنا أقوياء، لكننا مفيدون…ولا أحد يستغني عن الدجاج في المطبخ الإقليمي.”
حتى إسرائيل – هذا الكيان الذي يملأ المشهد اليوم ضجيجًا وقوة، بدأت كدولة صغيرة، محاصرة بالكراهية، ومحاطة بالأعداء. لم تكن تملك لا نفطا، ولا عمقا جغرافيا، ولا كثافة سكانية، لكنها، كالدجاج، عرفت كيف تستثمر كل بيضة،
وتجعل من كل قشة عشًا استراتيجياً. روّجت لصورتها كضحية أبدية، لكنها لم تتصرف كضحية، بل كدجاجة شرسة، تعرف متى تقفز من يد الذبح، ومتى تبيض ذهبًا في حضن العم سام.
وهكذا، في عالمٍ تصنع فيه الخرائط على موائد المصالح،
لم يكن الصوت الأعلى هو من ينتصر، بل الصوت الأذكى.
من يتقن فن البقاء لا يحتاج للزئير… يكفيه أن يكون مرغوبا، حاضرا، ضروريا.
الدجاج لم يغز الأرض بجيش، ولم يرفع راية،
لكنه أصبح أكثر الكائنات نفوذا… على كل مائدة، وفي كل ثقافة.
وهكذا تفعل بعض الدول: تضعف أمام العاصفة، لكنها لا تنكسر…
تتنازل قليلا، فتربح كثيرا…
تتراجع خطوة، لتقفز قفزتين.
في النهاية، من قال إن الهيمنة تحتاج إلى صواريخ ودبابات، وحتى نووي؟
أحيانًا تحتاج فقط إلى بيضة طازجة في التوقيت المناسب.

أحدث المقالات

أحدث المقالات