30 يونيو، 2025 12:01 م

علي جواد الطاهر صوت النقد النابض بين التراث والحداثة

علي جواد الطاهر صوت النقد النابض بين التراث والحداثة

حين يذكر النقادُ الكبارُ الذين وهبوا أعمارهم للنقد الأدبي، يتقدّم اسم الدكتور علي جواد الطاهر شامخًا، كقامة علمية وأدبية ظلت تمشي على خيط الدقة المتوهج بين الماضي المجلل بالمآثر، والحاضر المكتظ بالأسئلة. لم يكن الطاهر مجرد ناقدٍ، بل كان قارئًا استثنائيًا يُنصت للنصوص كما يُنصت العارف إلى الوحي؛ يضع يده على نبض الكلمة، وينبش في أعماقها حتى يكشف عن أسرارها المضمَرة.

وُلد هذا العلامة في مدينة الحلة سنة 1919، في بيتٍ تنفست جدرانه عبق الأدب، وسرى في أوصاله صوت الشعر والنثر، فشبّ عليًّا بين دفاتر الحكايا وأصداء المجالس الأدبية. ومنذ نعومة أظفاره، راح يلتهم الكتب بنهم العاشق، كأنّ الحروف كانت توقظ فيه شيئًا غائرًا في الأعماق، وتعده لرحلة علمية طويلة لن تنتهي إلّا بترك أثره في ذاكرة النقد العربي.

تابع دراسته في بغداد، ثم مضى إلى باريس، حاملاً شغفه باللغة وهمّه النقدي، ليعود بشهادة دكتوراه من السوربون، ومعها نَفَسٌ جديد في قراءة الأدب العربي من زاوية لم تكن مألوفة آنذاك. تأثر بالمدارس الغربية، لكنه لم يكن تابعًا لها، بل عاد ليمزج تلك الرؤى الحديثة بتراث عربيّ عريق، فخرج بمنهج نقدي خاص به، متينٍ كالبنيان، واضحٍ كالضوء.

في جامعة بغداد، حيث مارس التدريس، لم يكن علي جواد الطاهر محاضرًا فحسب، بل كان مرشدًا ومفكرًا ومربّيًا. كان يؤمن أن النقد لا يزدهر إلا في بيئة تعشق الأسئلة وتخاف الجواب السهل. أشرف على العديد من الرسائل الجامعية، وغرس في طلابه احترام النص، لا تقديسه، وتقدير الكاتب، لا التغاضي عن عثراته. وكان في حديثه مع طلابه حازمًا في المبدأ، لينًا في الحوار، واسع الاطلاع، سريع البديهة.

منهجه النقدي متوازن، لا يجور على القديم، ولا يُفتن بكل جديد. كان يقرأ النص بوصفه وثيقة ثقافية واجتماعية وتاريخية، لا مجرد تمرين لغوي. في مؤلفاته مثل “دراسات نقدية”، نرى عالِمًا يحلّل بمنطق، وأديبًا يتذوّق بجمال. تناول الشعر الجاهلي، وانفتح على الأدب العباسي، وغاص في بحور الأدب الحديث، مستخرجًا لآلئه، كاشفًا علله ومحاسنه، دون تكلّف أو تهويل.

كان قلمه في المقالات أشبه بمِبضع الجراح، لا يخشى أن يُشير إلى مواطن الضعف، ولا يتردد في الإشادة حيثما وجد الإبداع. نقده لم يكن خصومة، بل حوارًا مع النص، وكان يرى أن الأديب الكبير لا يخاف النقد، بل يحتاجه لينمو ويتطور.

كتب كثيرًا، ترجم، وحقّق، وجمع دواوين، وترك لنا مكتبةً أدبية زاخرة، تبدأ بـ “الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي”، ولا تنتهي عند “من يفرك الصدأ” أو “الباب الضيق”. في كل عمل، نلمح شخصية مثقفة ذات ذائقة عالية، وحرص أكاديمي صارم، وأسلوب فني لا يخلو من الأناقة.

آراء النقاد فيه جاءت معبّرة عن مكانته الرفيعة؛ وصفه كثيرون بأنه حجر الزاوية في النقد الأدبي العراقي الحديث، وأنه جسّد مرحلة الانتقال من النقد الانطباعي إلى النقد المنهجي الواعي. وقد أجمعت شهادات تلامذته وزملائه على أنه كان موسوعي الثقافة، شديد التواضع، لا يغريه المنصب، ولا يتكئ على الشهرة.

بعد وفاته عام 1996، لم يُطوَ اسمه بين صفحات التاريخ، بل ظلّ حيًا في عقول الباحثين، وعلى ألسنة الأدباء، وفي مناهج الجامعات. وما تزال كتبه تُقرأ، وتُناقش، وتُلهم، وتدفع بأجيال جديدة نحو عمق الفكر وجمال التحليل.

إن الحديث عن الدكتور علي جواد الطاهر لا يمكن اختزاله في سطور، فهو واحد من أولئك القلائل الذين ساروا بين الكلمات كما يسير العارف بين مقامات العارفين. جمع بين فضيلة التأصيل وجرأة التجديد، فكان ناقدًا لا ينتمي إلى زمن واحد، بل هو شاهد حي على أطوار التحول في الأدب العربي، ومعلّم لا ينتهي درسه.

في النهاية، نقف أمام إرثه لا لنرثيه، بل لنستمد منه ضياءً يُعيننا على قراءة الأدب بعيون لا تغفل، وبعقل لا يفرّ من التأمل، وبقلب يؤمن أن الكلمة الحق لا تموت.

أحدث المقالات

أحدث المقالات