لم يتح لي أن ألتقي بالشهيد ستّار خضير، ولا جمعتني به معرفة شخصية، غير أن اسمه طرق سمعي في اللحظة التي غادر فيها الحياة، شهيدًا وهو يؤدي واجبه الوطني. كان اغتياله البشع إحدى الجرائم التي اقترفتها زمرة الجبناء، وكتبت عنه صحافة الحزب آنذاك نعيًا مؤلمًا، مطالبة بالكشف عن القتلة والاقتصاص منهم. لكن النداء ظلّ يتردد في خواء، فما من آذان صاغية في عهدٍ جعل من التصفية الجسدية وسيلة لإسكات الأصوات النبيلة، وكان ناظم كزار، اليد الضاربة لصدام، يتولى المهمة بكفاءة سفّاح.
كانت تلك المرحلة بداية تنفيذ البعث لوعده الأول: سحق الحزب الشيوعي، واقتلاع جذوره من الأرض العراقية. أعطتهم الإمبريالية الحكم في تموز 1968 على أن يؤدوا هذا الواجب، فشرعوا فيه دون هوادة، تحت شعارات خادعة حاولت أن توهم القوى الوطنية بأن الذئب تاب وصار زاهدًا ناسكًا. لكن الذئب يبقى ذئبًا وإن لبس جلد الحمل، و”أبو عادة اسأل عن سلامته”، كما يقول المثل.
مرت السنين، وانكشفت الأقنعة، لكن البعث ظل رهان الإمبريالية في المنطقة، جرثومة لم تمت، بل تمددت، وتلبّست بأشكال شتّى، ولا تزال تتربص. أما دعاة الاجتثاث، فبعضهم فرّ إلى المنافي، والبعض بقي يُصفّق من بعيد، فيما ظلّ “أبناء الخايبات” يُذبحون، ليحمل المناضلون سيوف الأثير من خارج الحدود، ويعيدوا اللعبة ذاتها، دورة بعثية أبدية من هجوم وانكفاء، والتحام واندحار، وضحية دائمة هي الشعب، المعلّق في رقصة لا تنتهي على أنغام الديسكو والجوبي والهالـي كالي.
لكن دعونا نعود إلى الشهيد ستار، فهو جوهر الحديث، والمقام مقام تكريم لا تفجّع.
سمعتُ باسمه بعد استشهاده، كما يسمع العراقيون أسماء شهدائهم بعد أن تغيب أجسادهم. حينها، ترددت برقيات الاستنكار من الأحزاب الشقيقة والصديقة، وتناقلت وكالات الأنباء نبأ اغتياله، وأشارت إلى كونه عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. ثم مضت الأعوام…
وذات يوم، وفد إلى مدينتنا طبيب شاب يُدعى باسم الحيدر. لم يكن الناس حينها يسألون عن دين الطبيب أو مذهبه، فالقلوب كانت أكثر رحابة، والمجتمع أكثر تجانسًا. بدأت همسات تُسرّ بين الشيوعيين بأنه شقيق الشهيد ستّار خضير، فاقتربوا منه بهدوء، خشية أن تطاله الأيادي ذاتها.
جاء الطبيب برفقة فتاة في سنّ الدراسة المتوسطة، سجّلت في متوسطة البنات. ظننا أنها ابنته، لكنها في الحقيقة كانت ابنة شقيق الشهيد. صادف أن صارت زميلة لأختي، وكوّنت معها صداقة، وبدأت تزورنا من حين لآخر، تقرأ مع أختي وتذاكر دروسها. لم أكن أعرف هويتها، فقد كانت تربيتنا المحافظة لا تسمح بأن نحادث فتاة لا تربطنا بها قرابة. حتى جاء يوم سألت فيه والدتي عنها، فأخبرتني ودموعها تنهمر أنها “بنت الشهيد”، وأخذت ترددها دومًا بهذا الاسم.
كانت أمي ذات قلب رحيم، تتألم لليتامى وتحتضنهم بعاطفتها، ربما لأنها عاشت اليتم مبكرًا، فاحتضنتها جدتها، وتركت فيها تلك اللمسة الحانية.
وُلد ستار خضير في بلدة الكحلاء، أو ما يسميها أهلها “الجحلة”، عام 1930، لعائلة مندائية. كان والده صائغًا، في زمن لم يكن فيه الصياغة مهنة للترف، بل نار ولهيب. رغم الصعوبات، كانت عائلته ميسورة الحال، ووالده محبوبًا بين الناس، يقصدونه في بيته العامر بالألفة.
أصرّ والده على أن يتعلّم أبناؤه، وألا يسلكوا دربه الشاق، فأرسلهم إلى المدارس في وقت كان فيه أغلب الناس يدفعون أولادهم إلى الورش والأسواق. وهناك، في فصول الدراسة، تفتحت عين ستار على الفوارق الطبقية، فزملاؤه أبناء الأغنياء ينعمون بالملبس والمصروف والرعاية، وأبناء الفقراء بالكاد يملكون قوت يومهم. فكان ذلك باعثًا أوليًا لوعيه الاجتماعي، وتعلقه بقضايا الكادحين.
التحق بمتوسطة العمارة، وهناك انجذب إلى أفكار الحزب الشيوعي، وانخرط في النشاط الطلابي، حتى قاد إضرابًا لتأسيس قسم داخلي لطلبة المناطق البعيدة، ونجح في ذلك، واكتسب احترام زملائه. كما تعرّف على الشيخ حسين الساعدي، الذي غرس في نفسه قيم الوطنية الصادقة. وشارك في وثبة كانون 1948، وواجه الرصاص في التظاهرات، حيث سقط شهيد وأصيب آخرون.
بعد إنهاء دراسته الإعدادية، التحق بدورة إعداد المعلمين، وعُيّن في ضواحي بغداد، لكنه فُصل قبل نهاية سنته الأولى بسبب انتمائه السياسي. فعاد إلى مدينته، وانخرط في العمل الفلاحي، ووزّع منشورات سياسية، فأُعتقل مع أسرته إثر وشاية، وتعرّض لتعذيب شديد اضطره للاعتراف، فأُطلق سراح أسرته، وسُجن هو ستة أشهر، خرج منها أكثر عنادًا وإصرارًا.
لكنه لم يتوقف، فاعتُقل مجددًا عام 1954، وسُجن سنتين في بعقوبة، ثم أُبعد بعد الإفراج عنه إلى بلدة بدرة. وبعدها عاد إلى بغداد، وانخرط في العمل الحزبي مجددًا، وشارك في التنظيم العسكري بعد ثورة تموز 1958. ومع مؤامرة الشواف، أوفد إلى الموصل، ومن ثم إلى كركوك، فكان مثالًا للصلابة في وجه المحن.
وجاء انقلاب 8 شباط الدموي، فانتقل إلى العمل السري، وفي منتصف الستينيات، أوفد إلى كردستان، حيث شارك في الكفاح المسلح إلى جانب الحركة الكردية وفصائل الأنصار. وفي عام 1966 عاد إلى بغداد، ليقود التنظيم الحزبي في العاصمة، وينتخب عضوًا في اللجنة المركزية، محمّلاً بمسؤوليات جسام.
لكن البعث، بعد عودته للسلطة عام 1968، لم يغفل عنه، فكانت عيون الأمن تراقب تحركاته. وفي 23 حزيران 1969، كانت الخاتمة: كمين من قوات الأمن ينتظره في شارع فلسطين قرب الجامعة المستنصرية. أمطروه بوابل من الرصاص، وتركوه ينزف في الشارع. نُقل إلى مستشفى الطوارئ، ورافقه شقيقه، لكن الإصابات كانت مميتة، ولم تُجدِ نفعًا رعاية الطب، ففارق الحياة بعد خمسة أيام، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، كأنها وعد صامت بالثأر، أو أمل بأن الحزب لن يترك دمه يضيع.
شيّع جثمانه بمأتم مهيب إلى مقبرة أبي غريب، فأثارت الحشود حفيظة السلطة، ومنعت المشيّعين من مرافقة الجثمان لساعات. وهناك، وُري الثرى، وخلّف رحيله ألمًا عميقًا في نفوس رفاقه وكل من عرفه.
لكن الحزب، بعد كل ما خسره من قيادات على يد البعثيين، اختار أن يسير في طريق خاطئ، فعقد “جبهة الدجل الوطنية”، وأهدر تضحيات الشهداء، وأتاح للبعث تنفيذ جريمته الكبرى باجتثاث التنظيم، ودفن ذاكرة الشهداء.
لعل في سيرة ستّار خضير، وما واجهه من قمع واعتقال وتشريد، درسًا بليغًا لمن يعقدون التحالفات دون أن يقرأوا التاريخ جيدًا.