عبد المجيد الماشطة الحِلّيُّ الذي نَفَذَ إلى لُغَة الإنسان

عبد المجيد الماشطة الحِلّيُّ الذي نَفَذَ إلى لُغَة الإنسان

في عالمٍ تتقاطع فيه الدلالة بالإشارة، ويتداخل فيه المعنى بالسلوك، وقف الدكتور عبد المجيد الماشطة، ابن الحِلّة، كواحد من أعلام اللسانيات في العالم العربي، يخطّ بحبر الدرس العلمي طريقًا نحو فهم اللغة بوصفها كائناً حيًّا نابضاً بالتاريخ والثقافة والنفس البشرية. لم يكن الماشطة مجرّد أستاذ جامعي أو مترجم للنظريات الغربية إلى العربية، بل كان وسيطًا حضاريًا نقل علم اللسانيات من فضائه المجرد إلى نبض الواقع العربي، مزاوجًا بين الأصالة والحداثة، بين التراث والمعاصرة.

ولد عبد المجيد عبد الحليم الماشطة سنة 1941 في محلة جبران بمدينة الحلة، المدينة التي طالما كانت مهداً للعلماء والمفكرين، ونهل من مدارسها الأولى ثم ارتحل إلى بغداد حيث تخرّج في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب سنة 1964. غير أن طموحه العلمي لم يتوقف عند نيل الشهادة الجامعية، فحصل على الماجستير من الجامعة الأميركية ثم الدكتوراه، لينطلق بعد ذلك في مسار أكاديمي طويل، ابتدأه بالتعليم الثانوي، ثم ارتقى إلى مراتب التعليم الجامعي، وتسنّم مناصب مرموقة، فكان رئيساً لقسم اللغة الإنكليزية في جامعة البصرة عام 1976، ثم رئيساً لمعهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في الجامعة المستنصرية سنة 1982.

في مسيرته العلمية، جمع الماشطة بين النظرية والتطبيق، وبين التأصيل والتحديث، فقدّم للمكتبة العربية مجموعة من المؤلفات المهمة التي أصبحت مراجع أساسية للباحثين في اللسانيات. من أبرز مؤلفاته:

    علم الدلالة (1980)، وهو عمل تأسيسي استعرض فيه البدايات وتطوّر المفهوم.

    علم الدلالة السلوكي (1986)، حيث اقترب من اللغة بوصفها سلوكًا إنسانيًا لا ينفصل عن المحيط.

    البنيوية وعلم الإشارة (1986)، وهو نصّ قرّب فيه القارئ العربي من مدارس تحليل اللغة الغربية.

    مسرد التداولية (2018)، عمل توثيقي مهم للمصطلحات في حقل شائك.

    اللغة العربية واللسانيات المعاصرة (2019)، كتاب ينطق بهموم اللساني العربي الباحث عن موقع في مشهد عالمي.

وإلى جانب مؤلفاته، كان الدكتور الماشطة جسرًا بين الثقافات، فترجم أعمالًا مؤثرة في علم اللغة من الإنجليزية إلى العربية، أبرزها موسوعة علم الدلالة لـجي. آر. بالمر، وكتاب علم الدلالة لـجون لاينز، وقد أُعيد إصدار بعضها في العقد الأخير، تأكيدًا على استمرارية أثره العلمي.

 

لم يكن الماشطة نخبويًا في علمه، بل حاضر في الجامعات العراقية والعربية، من بغداد إلى البصرة، ومن بابل إلى طرابلس الغرب وصنعاء ومكة. عُرف بأنه أستاذ محب للتدريس، مشرف مخلص على طلبته، وعضو فاعل في اتحاد الأدباء العراقيين وجمعية المترجمين.

لقد ترك بصمة علمية وإنسانية امتدت بعد وفاته عام 2019، حين ووري الثرى في النجف الأشرف. لم يترك رحيله فراغًا فحسب، بل أطلق سلسلة من المبادرات الاستذكارية: أقامت كلية الآداب في بغداد حفلاً تأبينيًا له، وسمّى اتحاد أدباء وكتاب بابل برنامجه الفصلي باسمه، اعترافًا بفضله ومكانته، وأقيمت له أمسية وفاء شارك فيها زملاؤه وتلامذته.

وقد أجمعت آراء الباحثين والنقّاد على أنه من أبرز من رسّخوا علم اللسانيات في العراق، وفتحوا بوابات التحديث في حقل ظل لعقود حبيس المناهج التقليدية. وصفه البعض بـ”الضوء الهادئ”، الذي لا يثير الجلبة لكنه ينير الطريق، وقال عنه أستاذه وصديقه الدكتور حميد الهاشمي ذات مرة: “لم يكن الماشطة يدرّس اللغة، بل كان يوقظها من سباتها في أذهاننا.”

وهكذا، فإن عبد المجيد الماشطة لم يكن مجرد اسم في قائمة الأساتذة، بل كان حلقة حيوية في سلسلة تطور الفكر اللساني العربي. وسيظل إرثه العلمي نبراسًا لكل باحث يرنو إلى لغة الإنسان، لا بوصفها مجرد وسيلة، بل بوصفها بيت الوجود.

أحدث المقالات

أحدث المقالات