مازال القرار السيادي متأرجحاً بين العراق الرسمي وعراق الفصائل المسلحة، إذ تتوزع المواقف في بلد لم يستطع إقناع واشنطن بالضغط على حليفتها لإيقاف إنتهاك أجوائه من قبل طائراتها ومُسيّراتها وبالمقابل لم يستطع إقناع إيران حامي المنظومة السياسية في العراق أن تكف صواريخها من إختراق سمائه وعبور أجوائه.
بعد أكثر من عقدين من حكم الإسلام السياسي الذي تميّز بتعدد الولاءات وتنوع الخيانات لم تستطع هذه المنظومة السياسية من بناء سياج دفاعي يحمي الوطن من تدخلات القريب والبعيد، لم تستطع هذه الجماعات السياسية على الأقل إمتلاك منظومة دفاع جوي تحمي سماء العراق برغم كل الموازنات الإنفجارية وتسهيلات الدول الراعية لهذا النظام السياسي.
الواقع السياسي في العراق يعيش اليوم ورطة حقيقية لايستطيع الجزم إن كان العراق دولة في ظروف طبيعية أو اللادولة التي يحكمها سلاح الفصائل، ذلك السلاح الذي سيكون بأمرة الجارة إيران فيما إذا إستمرت أمريكا وحليفتها بسياسة الضغط القصوى على طهران، ومن المؤكد أن تلك الفصائل ستدخل الحرب بكل عناوينها وولائها العقائدي إلى جانب إيران فيما إذا وصلت الغاية من الإستهداف الإسرائيلي إسقاط النظام الإيراني.
يقف العراق عاجزاً عن تحديد بوصلة إتجاهه ومعرفة الطريق الصحيح الذي يجب عليه السير فيه، فما بين محاولات رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الذي طالب الجانب الأمريكي بمنع الطائرات الإسرائيلية من إنتهاك الأجواء العراقية إستناداً لإتفاقية الإطار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن، يأتي تحذير المسؤول الأمني لكتائب حزب الله العراقي أبو علي العسكري لينسف تلك المحاولات بالقول “إن دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر في الحرب سيجلب لها ويلات ودمار غير مسبوق” في تهديد مباشر يعكس الإستعداد لتوسعة رقعة الصراع.
وفي محاولة لإستدراج العراق إلى دائرة الصراع الإيراني-الإسرائيلي إنتقد نائب وزير الخارجية الإيراني كاظم غريب آبادي ما وصفه بعجز العراق عن حماية سيادته مطالباً بغداد بإتخاذ موقف حاسم تجاه الإنتهاكات الإسرائيلية، وأضاف آبادي إن العراق لايملك حتى الآن قدرة الحفاظ على سيادته ولا ينبغي لأحد أن يظن إن الصمت يعني دعم إيران، داعياً إلى تحرك واضح من جانب الحكومة العراقية، ذلك الموقف الذي يشير إن إيران لم تعد تُعوّل على الموقف الحكومي العراقي بمساندتها في حربها مع إسرائيل.
الغرابة في الموقف العراقي أنه يعيش بأريحية وعدم مبالاة بما حدث وسيحدث على أرضه وسمائه التي تخترقه طائرات الإسرائيليين وصواريخ الإيرانيين.
تخيلوا أن البرلمان العراقي الذي من المفترض أن يُكثّف جلساته في إستضافة القادة العسكريين والإطلاع على الإستعدادات فيما لو إجتاحت رياح الحرب الأرض العراقية.
فَشل هذا البرلمان أن يعقد جلسة واحدة لإدانة العدوان وإنتهاك سماء البلد، فأي سيادة للعراق يمكن الحديث عنها؟.
إغلاق السفارة الأمريكية في بغداد وإخلاء موظفيها وتسليم مسؤولية مبنى السفارة إلى الجيش الأمريكي يعني بوضوح إن أمريكا تخلّت عن آخر معقل للدبلوماسية في بغداد كان يمكن أن يتواصل معها العراقيين أو على الأقل ظلت هذه السفارة تمنع هجمات الإسرائيليين على الأراضي العراقية أو تؤخر أي هجوم على المصالح العراقية منذ السابع من أكتوبر رغم إشتراك الفصائل العراقية بضرب إسرائيل بالمُسيّرات والصواريخ في حرب غزّة.
المفارقة إن القلق الشعبي الذي تراه في وجوه العراقيين ربما يكون أشد وطأة وأكبر من القلق الحكومي الذي لم يبادر بأخذ الحيطة والحذر والإستعداد للقادم الأسوء سوى تكثيف وتشديد الإجراءات الأمنية التي تحافظ على هدوء الشارع العراقي خوفاً من تظاهرات أو إنتفاضة قد تطيح بالمنظومة السياسية التي تسكن المنطقة الخضراء.
بعد أكثر من عشرين عاماً من غياب الإستقلالية بالقرار العراقي وإمتزاجه بمصير الجارة الشرقية يدفع هذا البلد ثمناً باهظاً بسبب من أرادوا أن يربطوا مصيرهم بدول الجوار، وتلك هي المصيبة بأن العراق اليوم بات يُخشى عليه من الضياع في مهب رياح حروب إنابة لا ناقة له فيها.