27 يونيو، 2025 11:30 ص

خمسون عامًا في سراب الحداثة مراجعة فكرية لمثقف مخدوع

خمسون عامًا في سراب الحداثة مراجعة فكرية لمثقف مخدوع

على مدى عقود كنت كما كثير من أبناء جيلي أؤمن أن العلمانية الغربية والحداثة التي جاءت بها هي السبيل الوحيد إلى النهوض والتقدم وأنها الأفق الذي لا بد أن نسير إليه مهما كانت التضحيات.

كنت أراها خلاصًا من الاستبداد وفتحًا لأبواب الحرية والعقل والتفكير العلمي لكنني اليوم بعد خمسين عامًا من الغرق في هذا السراب أعود لأراجع نفسي وأعترف بكل مرارة أنني خُدعت.

لطالما رفعت الحداثة الغربية شعار الحرية لكنها حرية انتقائية تمنح لمن يخدم مصالحها وتُسلب ممن يختلف معها علمانية تتشدق بفصل الدين عن الدولة لكنها توظف الدين حين يخدم مصالحها وتقمعه حين يهدد سلطتها.

ديمقراطية لا تتردد في دعم الأنظمة الاستبدادية إن كانت تابعة وتؤلب على الأنظمة المستقلة إن خرجت عن الطوع ، أين هي القيم إذًا؟ أليست مجرد أدوات ناعمة لتكريس السيطرة والهيمنة؟

لقد شاهدنا كيف سقط القناع عن وجه الحداثة في لحظات الأزمات وفي الحروب وفي التعامل مع قضايا المسلمين وفي ازدواجية المعايير ، كنا نظن أن الإنسان هو محور هذه الحضارة فإذا به الإنسان الغربي فقط وكل ما عداه مجرد هامش.

أعترف أنني كنت من بين أولئك الذين نظروا بإعجاب مفرط إلى كل ما يأتي من الغرب وكنا نستهزئ بموروثنا ونرى فيه عبئًا يجب التخلص منه وندعو إلى القطيعة مع تراثنا بدعوى العقلانية والانفتاح لكن ما الذي جنيناه؟

لقد نزعنا عن أنفسنا جذورنا وتغربنا ثم اكتشفنا أننا لم نُقبل في الحداثة ولا عدنا إلى أصالتنا بقينا معلّقين في الفراغ بلا هوية ولا يقين.

كنا نُحسن الظن بالعلمانية الغربية ونحسبها طريقًا للنهضة فإذا بها طريق إلى الفراغ الروحي والعبث القيمي وكنا نظن أن نزع القداسة عن الدين يحرر العقل فاكتشفنا أنه يسلب الإنسان ذاته ويحوّله إلى آلة استهلاك.

حين أقول إنني أعود القهقرى فلا أعني تراجعًا إلى الوراء بالمعنى السلبي بل أعود إلى جذوري إلى منبعي إلى ما طُمست معالمه تحت غبار التغريب ،أعود إلى الدين لا كعقيدة طقوسية بل كنظام حياة كرؤية كونية متكاملة. أعود لأبحث عن الذات التي ضيّعتها في متاهات التنظير الغربي.

هذه ليست دعوة للانغلاق أو رفض الآخر بل دعوة لإعادة النظر للتصالح مع الذات للتمييز بين ما هو عالمي إنساني وما هو أداة للهيمنة ، فقد آن لنا أن نبني مشروعنا الحضاري من داخلنا لا من خلال استنساخ تجارب لم تُخلق لنا.

لقد خدعت، نعم، وخدع كثيرون معي منذ خمسون عامًا قضيتها أركض خلف أوهام الحداثة أروّج لمفاهيم لم تُثمر إلا الخواء لكني اليوم أملك شجاعة الاعتراف وأحمل يقينًا جديدًا بأن الخلاص لا يكون باستيراد أجوبة الغير بل بالبحث الصادق عن الحقيقة داخل الذات في تراثنا وفي إيماننا وفي قيمنا الأصيلة.

وقد لا أملك وقتًا لأرى الثمار لكن لعلّ من بعدي يُكمل الطريق… لا منبهرًا بل بصيرًا … مع التحية .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات