في مدينة الحلة، حيث تختلط عبق الحضارات القديمة بصوت النهر الخفيض، ولدت الشاعرة ريام الربيعي عام 1991، وحملت منذ نعومة أناملها حساسية الشاعر وإرهاصات الكلمة المشتهاة. لم تكن تلك الطفلة التي تنصت لحكايات الجدات، وتتأمل الغروب من ضفاف شط الحلة، تدرك أن القصيدة ستصبح لاحقاً موطنها البديل، وملاذها الأجمل حين تضيق الأرض بما رحبت.
ريام ليست شاعرة عابرة في زمن مكتظ بالضجيج، بل هي صوتٌ نسويٌّ ينطلق من تخوم الذات، ليعيد ترتيب اللغة على إيقاعٍ مختلف. كتبت الشعر باكرًا، وهي بعد طالبة على مقاعد كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل، لتتخرج عام 2013 محملة بخبرة جمالية لا تقتصر على الشعر فقط، بل تمتد إلى تخوم التشكيل والبصر ودهشة اللون. ولعلّ هذا المزيج بين الفن البصري والكتابة هو ما منحها حساسية خاصة في اختيار مفرداتها، فقصائدها تُبصر كما تُقرأ، وتُشَمُّ كما تُسمَع.
أصدرت عام 2022 مجموعتها الشعرية الأولى “متلازمة ستندال”، وهو عنوانٌ لم يكن بريئًا؛ فالستندال، كما في الطب النفسي، هو دهشة الجمال المفرطة حدّ الانبهار المؤلم. وهذا بالضبط ما تصنعه قصائد ريام: إنها تباغتك بجمالها، ثم تترك فيك رعشةً لا تفسير لها. القصيدة عندها ليست بناءً لغويًا بقدر ما هي انفعال روحي، تنفجر أحيانًا كصرخة، وأحيانًا كهمس، لكنها في الحالتين تحتفظ بصدقٍ داخلي يجعلها مؤثرة دون تكلف.
جاء عن مجموعتها الأولى دراسة بعنوان: “متلازمة ستندال: بوحٌ حوائي بصوتٍ عالٍ”،(الحوار المتمدن) رأى فيها تواشجًا واضحًا بين الشعر وفلسفة الفن، إذ تخرج القصيدة عند ريام من عمق التجربة الأنثوية، لا بوصفها ترفًا أو حكاية، بل بوصفها وجودًا قلقًا يطالب بحقه في البوح والاختلاف. لقد وجد النقاد في شعرها توهجًا عاطفيًا يتجاوز النمطية، ويتكئ على وعي ثقافي معاصر يجعل من كل نصّ مشروعًا لجمالية جديدة، تنطلق من الذات إلى العالم.
شاركت ريام في مهرجانات أدبية وثقافية متنوّعة، مثل بوابة عشتار الثاني، وعشتار تقرأ، واليوم العالمي للمرأة، وكانت في كل إطلالة لها تحمل نبرة مختلفة، وأسلوبًا في الإلقاء يشي بأنها لا تقرأ القصيدة بل تحياها. وبصوتها العذب، واستحضارها البصري للنص، كانت تستحوذ على انتباه المتلقين، وتعيد إليهم الإيمان بأن القصيدة لا تزال قادرة على أن تبني عالماً، أو تفتح نافذةً في جدار اليأس.
لم تكتفِ ريام بالنشر الورقي، بل غزت الفضاءات الإلكترونية أيضًا، فنُشر نتاجها في العديد من الصحف العراقية والعربية، مثل بابليون، التآخي، صباح بابل، الحقيقة، المدارات، النهار، ومجلات ثقافية كـ سطور الأدبية، أرمارجي، دار العرب وغيرها، كما تفاعل معها القارئ الرقمي الذي رأى في نصوصها مزيجًا من الغنائية الرقيقة والرؤية الأنثوية الجريئة.
اليوم، وبعد أن أصبحت عضوًا في اتحاد أدباء وكتاب بابل، وفي المنتدى الإبداعي، تمضي ريام في طريقها بخطى واثقة، وهي تتهيأ لإصدار مجموعتها الشعرية الثانية، وسط ترقب محبي الشعر الذين وجدوا في “متلازمة ستندال” وعدًا شعريًا لا يُخلف.
ريام الربيعي لا تكتب الشعر لأنها تريده، بل لأنها تُجبر عليه. القصيدة فيها شرفةٌ تطل منها على ذاتها والعالم، وكل بيت شعرٍ تكتبه هو محاولة للنجاة، ولتضميد ما لا يُقال. إنها شاعرة في زمن ندر فيه الشعراء الحقيقيون، وامرأة تعرف أن القصيدة، حين تكون صادقة، لا تحتاج إلا أن تُقال كي تهزّ قلب العالم.