المبادئ القومية في جوهرها الحقيقي، تتسامى عن مجرد التعصب لفئة دون أخرى وتنبذ تماماً تهميش الآخر أو سلب حقوقه. فالقومية بمبادئها الأصيلة، كما استقيناها من أمهات الكتب ومن فكر الراسخين فيها، هي محض (حب الفرد لأمته) وهذه من المسلمات. لذا فأن القومية هو سعي دؤوب لإثبات الذات والمحافظة على الأصالة وتعزيز الثقافة والتعريف بها بكل فخر واعتزاز.
إن حب الأمة واجب لا يمكن التغاضي عنه. فحب المجتمع والعمل المتفاني من أجل رفاهيته وازدهاره، هو مسؤولية فردية تقع على عاتق كل منا.
الدولة العثمانية كانت خلافة دينية في وجه التحديات وقد حكمت ربوع المنطقة العربية لأكثر من أربعة قرون وكانت بحق دولة ذات (توجه ديني عميق) تصدت لكل ما يهدد الاسلام. فقد حملت على عاتقها مسؤولية (الخلافة الإسلامية) وجاهدت في سبيل نشر الدين وترسيخ مبادئه في كافة أرجاء نفوذها. تلك الحقبة استلزمت أن تكون الدولة بصبغة دينية خالصة بعيدة كل البعد عن المبادئ القومية وذلك لضرورة (حماية الإسلام) أمام التحدي الغربي الذي كان يستهدف النيل من الدين وتقويض دعائمه.
أما بعد أن أفل نجم الدولة العثمانية وزالت سلطتها إثر الاحتلال البريطاني للعراق تحديداً بعد عام 1918، (انقلبت الآية تماماً). فما كان تحدّياً دينياً صرفاً، تحول هذه المرة إلى (تحديات قومية بحتة). بعد تلك المرحلة، واجه التركمان في العراق صعوبات جمة في (إثبات وجودهم كقومية مستقلة). فقد اصطفت جميع الأطراف ضدهم، بل وعملت جاهدة على (طمس هويتهم القومية)، باعتبارهم مجرد أتراك أو بقايا للدولة العثمانية.
لقد تعرض التركمان لأبشع أنواع (الصهر العرقي) والسبب الوحيد هو انتماؤهم القومي. عانوا الكثير على يد الإدارات المتعاقبة على حكم العراق ولم تتوانَ تلك الحكومات (المسلمة) عن الضغط عليهم لسلخهم من انتمائهم القومي الأصيل رغم كون التركمان أخوة لهم في الدين.
لقد برزت مؤخراً بعض الاطراف التي سعت إلى دفع التركمان نحو صراع ذي طابع ديني وإضفاء صبغة دينية على نضالهم في العراق واضعاف خط النضال القومي فيهم. فكانت الهوية القومية للتركمان عصية على التسيس الديني فلم تفلح هذه المحاولات ولن تنجح في تحقيق أهدافها. فالنسيج الاجتماعي التركماني في العراق ذو طبيعة قومية خالصة، لا تقبل المساومة على هذه الهوية أو استبدالها بأي انتماء آخر. هذا التماسك القومي هو الدرع الذي يحمي التركمان من محاولات جرّهم إلى معترك الصراعات الدينية والمذهبية ويؤكد أن نضالهم يبقى متجذراً في هويتهم الوطنية والقومية.
لا ريب أن التركمان هم مسلمون قلباً وقالباً، لا يداخل ذلك شك ولا يحتاج إلى برهان، خاصة في بيئة غالبها مسلمة بالأصل. إن إيمانهم جزء لا يتجزأ من هويتهم، لكنه لا يطغى على انتمائهم القومي الذي يمثل جوهر نضالهم ونسيجهم الاجتماعي المتماسك والقومية أساس مصائبهم ومعاناتهم وتبقى الهوية القومية راسخة وجامعة لنضال التركمان في العراق.
إن الجماعات الدينية السياسية التي تسعى للتلاعب بالفكر التركماني هي مجرد أجسام غريبة لفظها الجسد التركماني، تماماً كما يلفظ الجسم أي دخيل يحاول التغلغل فيه. فمثلما يرفض جسد الإنسان قبول كلية مزروعة من شخص آخر ويبدأ بمقاومة شديدة ضدها، فإن (الجسد التركماني) يرفض رفضاً قاطعاً أي توجه لا ينسجم مع هويته القومية الراسخة. هذه الهوية هي أساس وجودهم وكيانهم وهي خط أحمر لا يمكن تجاوزه أو المساومة عليه.