في ذُرى جيفارا.. صوتُ الضمير العالمي في دعم إيران

في ذُرى جيفارا.. صوتُ الضمير العالمي في دعم إيران

” اليوم هو الغد الذي كنّا نخشاه بالأمس” اليوم تتقاطع فيه الأسئلة مع الرصاص، وتُحاصر الحقيقة من كل الجهات، تصبح الكتابة شهادةً، وتغدو الكلمة موقفًا لا يقلّ عن الرصاصة في أثرها، ولا عن الدم في طهارته. وهنا، على تخوم الانهيارات الكبرى التي يشهدها العالم، نقف اليوم أمام سؤال وجودي يتجاوز الاصطفاف السياسي ويتعدى العداءات المذهبية والاصطلاحات الميتة: هل بقي في هذا الكوكب صوتٌ حرّ يمكن أن ينتصر للكرامة، حتى وإن خرج من فوهة معاقبة مثل إيران؟

إن الحديث عن إيران اليوم، لا يمكن أن يُقرأ من باب التصنيفات الجيوسياسية الصماء، ولا في ضوء الحسابات المصلحية التي تُدار بها سياسات الدول التابعة، بل يجب أن يُستعاد في ضوء فلسفة الحق، وتاريخ النضال الإنساني ضد الهيمنة، وفي أفق يطلّ من هناك، حيث يرقد غيفارا، مبتسمًا على تراب بوليفيا، وقد اختار أن يموت واقفًا على أن يحيا راكعًا.

اليوم تقف إيران أمام العالم بأكمله كمعادلة أخلاقية كما وقفت قبلها غزة وبيروت .. فهل يُعقل أن تقف أمة كاملة تتفرّج على حصارٍ اقتصادي وسيبراني وعسكري غير مسبوق يُفرض على شعب كامل، فقط لأن بلاده قالت “لا” في وجه السكين؟ أيُعقل أن تُحاصَر إيران لأنها لم تضع يدها في يد القاتل، ولأنها رفضت أن تتخلّى عن وعدها لفلسطين، فاختارت أن تدفع الثمن وحدها؟

يقول سارتر: “الحرية ليست ما نُعطى، بل ما نأخذ”. وقد أخذت إيران لنفسها حريّة التمايز، ودفعَت مقابلها عزلةً خانقة، وخسائر اقتصادية هائلة، وجراحًا دامية في الضمير الداخلي. لكنها حتى اللحظة، لم تضع رايتها على الطاولة.

اليوم حين نستلهم روح غيفارا، فإننا لا نستحضره كأيقونة عاطفية رومانسية، بل كاختيار أخلاقي في مواجهة وحشية العالم. كان غيفارا يعرف تمامًا أن الجبهة الأهم ليست فقط حيث تُرفع البنادق، بل حيث تُختبر الكرامة. لم يكن معصومًا، لكنه لم يكن خائنًا. وقف مع كوبا، ثم مع الكونغو، ثم مع بوليفيا، لا لأنه كوبي أو إفريقي أو لاتيني، بل لأنه إنسان.

ولأن الإنسان الحقّ لا يمكن إلا أن يشعر بشيء من غيفارا في قلبه، حين يرى ما تتعرّض له إيران اليوم، فإن كل مناضل حرّ، وكل مثقف نزيه، مدعو لأن يتحرّر من ازدواجية المعايير، ويرى المشهد كما هو: لحظة اختبار للضمير العالمي.

اليوم .. يومنا .. هو مهمة الكشف عن الأكاذيب التي صارت بديهيات، فلقد تم تجريد النقاش من كل أدوات التحليل التاريخي والإنساني، وحُشرنا بين ثنائيات مضحكة: عربي/فارسي، سُني/شيعي، إسلامي/علماني، شرقي/غربي… وكأن على المرء أن يختار بين استبداد الداخل أو هيمنة الخارج، بين الجلاد أو السجّان.

لكن هيغل يقول: “الحقيقة هي الكلّ”. وإذا أردنا أن نرى الحقيقة كاملة، فلننظر إلى ما يحدث في غزة، ثم إلى من بقي معها، ثم نُعيد فرز القائمة. ماذا تبقّى من شرف أُمّة إن باعت كل شيء، وتخلّت عن كل شيء، من أجل سلام إبراهيمي لا يساوي خنجرًا صدئًا؟

اليوم هو “الحق ليس جنسية ولا مذهبًا.. لقد أُطلقت على إيران كل النعوت الممكنة: مجوسية، صفوية، ثيوقراطية، مارقة… وتحوّلت إلى شيطانٍ بعيونٍ عربية، بينما تحالف الشياطين الجدد في تل أبيب وواشنطن وأبو ظبي والرياض، صار يُقدّم باعتباره النموذج العقلاني للاستقرار والتقدّم. أي سقوط هذا؟ وأي انفصام في الوعي؟

الحقيقة الجارحة هي أن إيران تدفع اليوم ثمن موقفها من الكيان الداعر، تمامًا كما دفع نصر الله وهنية والرنتيسي والشقاقي وياسين… لا لأنهم أنبياء، بل لأنهم رفضوا أن يُباع الشعب الفلسطيني كسلعة في السوق.

اليوم .. هو الفلسفة الأخلاقية للموقف، في لحظة كهذه، كل صوت يكتب من قلبه، من وجدانه، من تجربته، عليه أن يعي أن ما يجري ليس صراعًا تقليديًا، بل صراعٌ على المعنى نفسه. على تعريف الشرف، والكرامة، والحق، والاستقلال. فإما أن تكون إيران جمهورية صواريخ تُرعب القتلة، أو تتحول، كما قيل بحق، إلى ملهى مفتوح لكل جائع إلى النفط أو إلى الجسد.

اليوم هو احتمالاتنا.. في النهوض او السقوط ! لا لن تنجو إيران وحدها.. ولربما لن تنتصر إيران على الغرب، هذا صحيح. لن تُطيح بالنظام العالمي. لكن من قال إن المقاومة تُقاس بالنتائج؟ المقاومة هي أن تقول “لا” حين يسكت الجميع. أن تقف وحدك، كما وقفت كوبا الصغيرة لعقودٍ في وجه غطرسة أميركا. أن تصمد كما صمدت فيتنام. أن تحترق واقفًا، كما قال محمود درويش: “علِّقوا حبلَ مشنقةٍ كي أراها، وسأصعدُ وحدي، وأغني لفجري القريب“.

اليوم هو نداء إلى الضمير العالمي، في زمن غابت فيه الحقيقة، وصارت المبادئ ترفًا، لا بد لكل حرّ أن يقول: لسنا مع إيران كدولة، ولا مع نظامها كسلطةفحسب، بل مع حقّها أن تقول لا. مع موقفها من فلسطين. مع صواريخها التي أوجعت الكيان، حين سكت الجميع.

ولتكن خاتمتنا على لسان غيفارا نفسه، حين قال: “إنّني لا أُحس بالحقد على أحد، لكنني أُحس بالغضب حين أرى الظلم، ولذلك قررتُ أن لا أكون حياديًا أبدًا“.

اليوم ..

فلنحترق مع الحقيقة، ولا نحيا تحت كذبة..

في زمن ما بعد الحياد.. على حدود الجمر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات