في مدينة الحلة، حيث تتشابك جذور النخيل مع آثار بابل، وُلدالباحث والمترجم حسين علوان حسين يوم الثلاثين من آذار عام1951، في زمن كانت فيه الكلمة تحفر طريقها في وعي العراقيينكجذوة مقاومة أو كبذرة أمل. نشأ في مدينة تتكئ على مجد قديموتقاوم خيبات الحاضر، فكبر وفي يده كتاب، وفي قلبه نزوع حادإلى المعرفة.
منذ نعومة أظفاره، بدا كأنه لا يكتفي باللغة العربية، تلك التي أنجبتالمتنبي والجاحظ، بل كانت عينه على لغات أخرى، فاختار الانكليزيةجسراً إلى العالم، والتحق بكلية التربية / جامعة بغداد، متخرجًا منقسم اللغة الإنكليزية عام 1972، ليبدأ رحلته الطويلة في تدريساللغة وتفكيك النصوص، في المدارس أولًا، ثم بين أروقة الجامعاتوقاعات المحاضرات.
لكن حسين علوان لم يكن معلّمًا تقليديًا، بل كان باحثًا يحدّق فيالكلمات كما يحدّق الحفار في طبقات الأرض، باحثًا عن المعانيالدفينة، مستقرئًا التاريخ، ناقدًا النص، ومُترجمًا الروح لا الكلماتفحسب.
كان التحوّل الأبرز في حياته حين استأنف دراسته الأكاديمية بعدسنوات من الخدمة، فحصل على شهادة الماجستير من كلية الآداببجامعة بغداد عام 1997 في الأدب الإنكليزي، ثم الدكتوراه في علماللغة الإنكليزية عام 2004. ومع ذلك، لم ينفصل أبدًا عن همومالواقع، ولا عن إرث الحلة الثقافي، ولا عن صدى بابل في أعماقه، بلظلّ يربط كل ما يكتب ويترجم بهذا الإرث، حتى وهو ينقل إليناصوت الروائي النرويجي كنوت هامسن في نساء المضخة، أو يُعيدتشكيل الأسطورة في ملحمة كلكامش.
وهو في كل ما كتب وترجم، ظل مخلصًا لنظرة نقدية لا تنخدعبالسطح، بل تغور في المعنى. يرى فيه بعض النقاد أنه جسر ثقافيرصين بين الشرق والغرب، رجلٌ يعرف أن الترجمة ليست مجرد نقل،بل فعل خلق، حيث يعيد الكاتب ولادة النص في سياق جديد، بثقافةجديدة، دون أن يُفقده روحه.
يرى الناقد فاضل ثامر، في مقالة نشرها في إحدى الدوريات، أنحسين علوان “يتعامل مع النص الأجنبي كما يتعامل الجراح معالجسد المريض: بدقة، بحذر، وبحبٍّ لا يُقال“، بينما أشار الناقدعلي حسن الفواز إلى أن “مترجمًا مثل حسين علوان يُثري المكتبةالعراقية لأنه يختار نصوصًا تحمل قيمة فكرية وفنية، ويقدّمها بلغةأنيقة وبترجمة مسؤولة“.
ولم يكن وفاؤه للترجمة وحدها، بل امتدّ إلى المسرح والرواية والقصة،فكتب بابل تزهو بالنصر، ومعمعة العميان، وحوار الطرشان، وهيمسرحيات تقف على الحافة بين الرمزية والواقعية، وتحمل فينسيجها السياسي والاجتماعي نقدًا ساخرًا وواعيًا، بينما روايتهرجع الوجع وزعبيل في بابل تتناول تمزقات الإنسان العراقي،متوغلة في النفس المحلية دون أن تغرق في الانغلاق.
أمّا في كتابه الصراع في ملحمة كلكامش، فقد قرأ التراث بعيونمعاصرة، وراح يبحث عن ذلك “الكلكامش” الجديد الذي لا يهزمالموت بالسيف، بل بالمعنى، بالمعرفة، وبفهم الحياة كما هي.
كان أيضًا ناقدًا يُجيد الإصغاء إلى النصوص الشعرية، فاشتغلعلى مختارات من شعر موفق محمد وجبار الكواز، وكتب في قراءاتهالشعرية مقالات تنبض بحسّ تحليلي عميق، لا يفصل الجمال عنالفكر، ولا الوزن عن الرؤيا.
لقد كان عضويته في اتحاد أدباء وكتاب بابل منذ 1984، وجمعيةالمترجمين العراقيين، انعكاسًا طبيعيًا لمشروعه الثقافي، لا كصفةتكميلية، بل كامتداد لفعله وحضوره. وحين كتب عن احتلال العراقعام 2003، لم يكن شاهدًا فحسب، بل كان يحاكم اللغة، ويفككالشعارات، ويعيد ترتيب الجُمل لتكشف ما خفي من أهدافوخيانات.
أما مقالاته المنشورة في الصحف الورقية والإلكترونية، فهي مزيجمن التأمل التاريخي والنقد اللغوي والسياسي، وهي تكشف عنعقل يُجيد العبور بين السياقات دون أن يتورط في سذاجة الأدلجةأو ضباب الخطابة.
يكتب حسين علوان كمن ينقّب في الحطام عن جواهر لم تُكتشفبعد، مترجمًا وكاتبًا، باحثًا وأستاذًا، ظلّ، رغم تقلبات العراقومآسيه، وفيًّا للغة، للأثر، للمعنى، ومخلصًا لرسالة ثقافية ظلّتتتأرجح دومًا بين الأمل والانطفاء.
في زمن تعلو فيه الضوضاء على المعنى، يظل حسين علوان أحدالذين اختاروا أن يكونوا أوفياء للحرف، لا كوسيلة، بل كغرسٍ ينبت،ببطء، على شاطئ بابل.