*العراق 2025 ومرحلة التعفن السياسي: بين مشرط الإنقاذ وساعة الانفجار*

*العراق 2025 ومرحلة التعفن السياسي: بين مشرط الإنقاذ وساعة الانفجار*

خلال جلساتنا العلمية المطولة ضمن الفريق الوطني الذي يعمل على صياغة مشروع التحول الوطني للعراق، انشغلنا طويلاً بمناقشة كتاب بنية الثورات العلمية للفيلسوف توماس كون، والذي كان موضوع نقاش خاص مع زميلي الدكتور عبد السلام المياحي، العالم العراقي البارز في مجالات إدارة التغيير ونظم الاستدامة وصاحب الابتكارات الثورية حيث كنا نستعرض آليات تطور الفكر العلمي، وانتقال الأنظمة الفكرية والسياسية من مرحلة “العلم العادي” إلى “الثورة الفكرية”، وما يصاحبها من أزمات متراكمة قبل لحظة التحول الجذري.
في هذه الأجواء العلمية جاءت الإشارة الدقيقة لوصف ما يمر به العراق في هذه المرحلة الحساسة:
 “نحن نعيش مرحلة التعفن السياسي.”
لم تكن الكلمة مجازاً أدبياً، بل كانت تشخيصاً حقيقياً يستند إلى قراءة فلسفية وعلمية لمسار الدولة العراقية منذ 2003 حتى اليوم.
إن العراق اليوم لا يمر بأزمة عابرة، بل وصل إلى مرحلة تحلل تدريجي في بنيته السياسية والاجتماعية والمؤسساتية، حيث تتراكم الأزمات دون قدرة على المعالجة الذاتية، ويقترب النظام من نقطة الانفجار إن لم يُبادر إلى عملية إنقاذ جذرية منظمة.
أولاً: التحديات المتراكمة منذ 2003 حتى 2025
منذ لحظة سقوط النظام السابق عام 2003، دخل العراق مرحلة انتقالية معقدة ظن البعض أنها ستكون مرحلة بناء دولة ديمقراطية حديثة، لكنها تحولت بفعل تراكمات عديدة إلى نظام مأزوم بنيوياً، من أبرز معالم أزمته:
تفكيك مؤسسات الدولة المركزية دون إعادة بنائها على أسس وطنية.
تكريس نظام المحاصصة الطائفية والقومية في توزيع السلطة والثروة.
إخضاع القرار السياسي العراقي لصراعات المحاور الإقليمية والدولية.
تفشي ظاهرة الفساد كمنظومة إدارية معقدة تخترق جميع مستويات السلطة.
تزايد الاعتماد المفرط على الريع النفطي دون بناء اقتصاد إنتاجي مستدام.
انقسام القوى الأمنية بين مؤسسات رسمية وفصائل مسلحة خارج سيطرة الدولة.
انهيار المنظومات الخدمية الأساسية في الصحة والتعليم والكهرباء والبنى التحتية.
هذه التحديات، التي بدأت كاختلالات قابلة للإصلاح، تحولت مع مرور الزمن إلى أعراض مرضية مزمنة تدفع النظام إلى حالة شلل تدريجي.
ثانياً: مظاهر التعفن السياسي العميق
لم يعد العراق يعاني من أزمة سياسية فحسب، بل من حالة تعفن شاملة مست كل مفاصل الدولة والمجتمع، يمكن رصدها في كل المجالات والمحاور وهذه بعضها:
1️⃣ تعفن المؤسساتية:
غياب الدولة المؤسسية الفاعلة وتحول الوزارات والهيئات إلى كيانات مشلولة تديرها التوازنات الحزبية والطائفية.
ضعف الأداء الإداري وغياب معايير الكفاءة في التعيينات العليا.
انهيار منظومات التخطيط الاستراتيجي واستبدالها بإدارة يومية للأزمات المؤقتة.
2️⃣ تعفن القيم الأخلاقية:
ضعف الالتزام بالقيم الوطنية والمهنية في العمل العام.
شيوع ثقافة الولاء الشخصي والجهوي فوق مبادئ الصالح العام.
تطبيع الفساد واعتباره وسيلة طبيعية للترقي والنجاح داخل النظام السياسي والاقتصادي.
3️⃣ تعفن العدالة الاجتماعية:
اتساع الفجوة الطبقية بين قلة حاكمة متخمة بالثروات وأغلبية فقيرة تعاني البطالة والتهميش.
غياب تكافؤ الفرص في التعيين والترقي والتعليم.
تآكل قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية بعدالة وكرامة.
4️⃣ تعفن الفكر والوعي السياسي:
انعدام المشروع الوطني الجامع كمرجعية فكرية للدولة والمجتمع.
اختزال العمل السياسي إلى صراع نفوذ بين كتل مغلقة بلا رؤى وطنية.
تسطيح النقاش العام وتدمير المنظومة الثقافية والإعلامية لحساب خطاب التخندق والانقسام.
ثالثاً: مؤشرات اقتراب الانفجار
تحت هذا المشهد المعقد يواصل التعفن السياسي دفع العراق نحو حافة الانفجار التاريخي، مع تصاعد:
غضب الأجيال الشبابية التي فقدت الإيمان بجدوى النظام السياسي القائم.
تصاعد البطالة بشكل غير مسبوق، خاصة بين خريجي الجامعات.
تعطل مؤسسات القضاء والرقابة وتآكل نزاهتها تحت ضغوط الولاءات السياسية.
صراع مستمر على النفوذ بين المكونات المسلحة داخل الدولة وخارجها.
انهيار ثقة المجتمع كلياً بكل أدوات الحكم القائمة.
رابعاً: الفرصة الأخيرة لإنقاذ العراق
رغم عمق الأزمة، لا يزال أمام العراق فرصة ضيقة للتصحيح قبل الانهيار الكامل.
هذه الفرصة لا تتحقق إلا عبر ثورة فكرية وعملية منظمة قادرة على:
إعادة تأسيس الدولة وفق مفهوم المواطنة الشاملة فوق كل الهويات الفرعية.
تقويض منظومة المحاصصة بكل أبعادها وتفكيك شبكات الفساد البنيوي.
بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي يوفر فرص العمل والثروة المستدامة.
دمج القوى المسلحة ضمن مؤسسات الدولة تحت سلطة القانون.
تحرير القرار العراقي من تدخلات الخارج ليعود سيداً على أرضه.
صناعة قيادة وطنية علمية تحمل مشروع التحول الجذري بعيداً عن الحسابات الحزبية الضيقة.
خامساً: بين مشرط الجراحة وساعة الانفجار
إن كل تأخير في إطلاق مشروع الإنقاذ الجذري سيقرب العراق أكثر من لحظة الانفجار الكارثي.
وكما في الجسد المتعفن، فإن الجراحة المبكرة المؤلمة أكثر رحمة وأملاً من الانهيار الكامل الذي لا رجعة فيه.
إن التاريخ لا ينتظر طويلاً، وهو الآن يضع العراق أمام لحظة مصيرية:
إما مشروع وطني شجاع يعيد بناء الدولة من الجذور،
وإما انفجار مدمر سيدخل العراق في دورة فوضى مفتوحة على المجهول لعقود قادمة.
الفرص التاريخية لا تمنح مرتين… والعراق 2025 يواجه لحظة الحقيقة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات