تمر منطقة الشرق الأوسط بمرحلة إعادة تشكّل عسكري واستراتيجي غير مسبوقة، في ظل حرب متصاعدة بين إسرائيل وإيران تخرج عن النسق التقليدي للصراع بالوكالة، لتدخل حيّز المواجهة المباشرة. وفي هذه اللحظة، يعاد تعريف مفاهيم الردع، وتُختبر نجاعة نظريات الأمن القومي أمام وقائع ميدانية متغيرة بالصدام العسكري.
فإسرائيل، التي تأسست استراتيجيتها العسكرية على مبدأ الضربة الاستباقية بوصفها أداة وقائية لتحقيق التفوّق الميداني المبكر – كما جسّدها عقائديًا موشيه ديان وعمليًا في حرب 1967 – بدأت تتحول إلى نموذج جديد من الردع يعتمد على ما يسميه الخبراء بـ التفوّق النوعي الاستراتيجي (Qualitative Military Edge) وهو تفوّق لا يقوم فقط على عنصر المبادأة، بل على امتلاك أدوات التفوّق التكنولوجي والقدرات السيبرانية والاستخباراتية المعمقة، بما يتيح احتواء التهديدات دون الحاجة إلى الانزلاق في حروب مفتوحة وشاملة. وفي المقابل، تعيد إيران بلورة نموذج ردعي خاص بها، يقوم على مبدأ الردع غير المتكافئ (Asymmetric Deterrence)، من خلال توظيف ترسانة صاروخية بعيدة المدى وقدرات مسيّرة هجومية، إضافة إلى اعتماد من بقي من شبكة الوكلاء الإقليميين الفاعلين ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة. وقد دشّنت إيران مرحلة جديدة في هذا السياق حين أطلقت صواريخ مباشرة نحو العمق الإسرائيلي، وأصاب مركز مدينة تل أبيب، في تطور نوعي يمثل – وفق المعايير الاستراتيجية – انتقالًا من “الردع بالواسطة” إلى “الردع بالتهديد المباشر”.
لا أعلم بعض المحللين العرب يؤكد بأن الحسم يكون براً، وليس بضربات جوية، وإنما ما يمكن قوله هو حضور في قلب الصف الأول حول الولي الفقيه… وكما قرر كارل فون كلاوزفيتز في أطروحته الخالدة: “الحرب ليست فعلًا منفصلًا، بل هي امتداد للسياسة بوسائل عنيفة”، وبالتالي، إن فهم هذا التصعيد المعقّد لا يتم إلا من خلال تفكيك أبعاده العسكرية والجيوسياسية والعقائدية والتكنولوجية.
أولاً: التحول في العقيدة العسكرية وموازين الردع
العقيدة الإسرائيلية: الردع المركّب والتفوّق النوعي
شهدت المدرسة العسكرية الإسرائيلية تحوّلًا تدريجيًا من مركزية العقيدة الوقائية القائمة على المبادرة بضربة استباقية إلى نموذج الردع التراكمي (Cumulative Deterrence)، وهو ردع قائم على امتلاك بنى تحتية دفاعية وهجومية قادرة على امتصاص الهجوم، وإعادة تعريف كلفة الاعتداء على إسرائيل. ووفق تحليلات زئيف شيف (Ze’ev Schiff) وإهود يعاري (Ehud Ya’ari) ، وهما من أبرز المحللين العسكريين والإعلاميين الإسرائيليين اللذين أثروا الفكر الأمني والاستراتيجي عبر كتاباتهما العميقة، ولهما أثر كبير في فهم الصراع العربي–الإسرائيلي، وأكدوا بأن ما يميز العقيدة الإسرائيلية الحديثة هو سعيها إلى الحفاظ على فجوة نوعية تسمح بردع أعدائها ضمن مستويات متعددة من الاشتباك. وقد تجسدت هذه المقاربة في تطوير منظومة دفاع جوي ذات ثلاث طبقات (Iron Dome – David’s Sling – Arrow) بالإضافة إلى قدرات هجومية دقيقة تشمل الطائرات المسيرة وأنظمة الحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف والضربات الموضعية.
ولكن هذه العقيدة واجهت اختبارات حقيقية، خاصة في ظل فشلها الجزئي في احتواء عمليات مباغتة ذات طابع غير تقليدي، كما حدث في أحداث أكتوبر 2023، حين تعرضت البنية الاستخباراتية الإسرائيلية لهزة بفعل هجمات منسقة من أطراف غير نظامية، وهو ما كشف عن هشاشة في قدرة الردع التكنولوجي في مواجهة الابتكار غير المتماثل للخصم.
العقيدة الإيرانية: الردع بالعمق وتوسيع مسرح العمليات
في المقابل، تنتهج إيران استراتيجية دفاعية هجومية قائمة على مبدأ الدفاع بالتمدد الإقليمي. وكما صرّح الجنرال قاسم سليماني: “ندافع عن إيران من خارج حدودها”، وهذه ليست مقولة بلاغية، بل تلخيص دقيق لمبدأ المنطقة العازلة العملياتية (Operational Buffer Zone)، التي توفرها أدوات النفوذ الإيراني في العراق ولبنان واليمن حتى الآن رغم ضعف هذه الأسيجة الأمنية.
وتعتمد هذه العقيدة على نموذج الردع بالمخاطرة (Risk-Based Deterrence)، حيث تُستخدم القوة النارية الصاروخية والمسيّرات الانتحارية في توجيه رسائل استراتيجية، كما في الضربة الأخيرة التي طالت العمق الإسرائيلي، وصولًا إلى محيط تل أبيب. وقد مثّل ذلك – وفق أدبيات الدراسات العسكرية – تجاوزًا لخطوط الردع التقليدية، ورسّخ مفهوم “كسر الاحتكار الجغرافي للأمن” الذي كانت إسرائيل تعوّل عليه منذ تأسيسها.
وعلى الرغم من محدودية الأثر الميداني المباشر لهذه الضربات – بسبب فعالية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية التي اعترضت ما يقارب 99% من المقذوفات – إلا أن الأثر النفسي والسياسي والاستراتيجي كان عميقًا، لأنه هزَّ فرضية “الحصانة الجغرافية” الإسرائيلية، وأدخل المواطن الإسرائيلي في دائرة التهديد المستمر.
جدلية الهجوم والدفاع: سباق سيف ودرع
تدور بين الطرفين الآن معادلة استراتيجية مزدوجة:
إسرائيل تراهن على منظومة متكاملة من الاستخبارات الدقيقة، والتفوق التقني، والضربات الموضعية، لاحتواء التهديدات قبل تبلورها.
إيران تراهن على تعدد أدوات الردع، وامتلاك حرية التصعيد من جبهات متعددة، لفرض كلفة سياسية وعسكرية عالية على أي تحرك إسرائيلي.
النتيجة المباشرة هي أن نموذج الردع الإقليمي نفسه قد أعيد تعريفه. فبدلًا من الردع الأحادي التقليدي (Israel Deterring Others)، نحن أمام حالة ردع متبادل غير متوازن (Asymmetric Mutual Deterrence)، حيث يملك كل طرف ما يكفي لإيلام الآخر دون امتلاك القدرة على حسم شامل. وهي حالة قد تكون – في نظر بعض المنظرين كتوماس شيلنغ – أكثر استقرارًا من ردع مطلق أحادي؛ لكنها في الوقت ذاته أشد هشاشة، لأنها تفتح باب الانزلاق غير المقصود.
ثانياً: البعد الجيوسياسي: انكشاف المحاور وتبلور الاصطفافات الجديدة
إن التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران لا يُقاس فقط بمدى الدمار أو عدد الضربات، بل بما يحدثه من ارتجاجات في بنية النظام الإقليمي، وكشفه لهشاشة الاصطفافات القائمة، وانكشاف ما يمكن تسميته بـ”جيولوجيا التحالفات السياسية”. فبفعل هذا التصعيد، وُضعت القوى الكبرى أمام معادلة توازن دقيقة، يتنازعها من جهة ثقل التحالفات التاريخية، ومن جهة أخرى هاجس الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة.
الولايات المتحدة، الحليف التقليدي لإسرائيل، تجد نفسها في موقف معقد بين التزاماتها الأخلاقية والإستراتيجية تجاه أمن تل أبيب، وبين سعيها لاحتواء النزاع، ومنع تحوّله إلى مواجهة كبرى قد تستنزف قوتها في لحظة تعدّ فيها الصين أولويتها القصوى. لذا فإن تصريحات الإدارة الأمريكية جاءت محسوبة، تؤكد الدعم لإسرائيل ضمن حدود الرد، وتدعو – في الوقت نفسه – إلى تغليب الحلول الدبلوماسية. والموقف الأمريكي يعكس ما يسميه المحللون العسكريون بـ”الردع الهادئ” أو strategic restraint.
أما روسيا، الشريك العسكري الأهم لإيران في الساحة السورية، فقد اتخذت موقفًا هجوميًا في خطابه، دفاعيًا في جوهره، عبر تنديدها العلني بالضربة الإسرائيلية واعتبارها تهديدًا للاستقرار. وإن هذا الموقف الروسي يتجاوز مجرد التضامن السياسي، ليعبّر عن رغبة موسكو في حماية موطئ قدمها في الهلال الخصيب، خصوصًا في ظل تناقص هوامش المناورة أمامها في أوكرانيا، وخسارتها في سوريا.
وأما الصين من جهتها، تبنّت موقف “الضاغط البارد” من خلال دعواتها لضبط النفس. وبكين، التي تستورد أكثر من نصف نفطها من منطقة الخليج، تنظر إلى هذا الصراع كتهديد مباشر لاستقرار إمدادات الطاقة ومبادرتها الاقتصادية “الحزام والطريق”، ولا سيما في ظل تنامي اعتمادها على الاستقرار في الشرق الأوسط لتعزيز دورها كقوة ناعمة ومتعددة الأقطاب.
على مستوى الإقليم، يكشف المشهد عن انقسام براغماتي في التعاطي مع التصعيد؛ تركيا، رغم خصومتها التاريخية مع طهران، وقفت إعلاميًا ضد الضربات الإسرائيلية، في موقف وظيفي يعكس رغبة الرئيس أردوغان في ترسيخ موقع أنقرة كقوة إسلامية مستقلة عن المحور الأطلسي، دون التورط في الاصطفاف الصريح مع طهران. وأما دول مجلس التعاون الخليجي، فتقف عند خط التقاطع الحرج بين الحسابات الأمنية والضغوط الشعبية. فرغم خطاب الحياد الدبلوماسي الذي اتسم به بيان ولي العهد السعودي بالدعوة إلى “ضبط النفس”، إلا أن القراءة الاستخباراتية تشير إلى أن بعض دول الخليج، خصوصًا الإمارات والبحرين، تنظر بارتياح تكتيكي إلى إضعاف العمق الإيراني، بل وتقوم – على الأرجح – بدور غير معلن في دعم الجهد الإسرائيلي عبر تبادل معلوماتي أو لوجستي، في سياق استمرار ما بعد “اتفاقيات إبراهيم”، وفي مصر والأردن بدتا أكثر حذرًا، وقد عبّرتا عن قلقهما من احتمال انزلاق الحرب إلى الحدود، خاصة أن هشاشة الداخل في كلا البلدين لا تحتمل ارتجاجات إقليمية إضافية.
تُعيد هذه التطورات بعث مفهوم “صراع المحاور”، لكن بصيغته الحديثة: محور إسرائيلي-عربي سني (ضمنيًا) في مقابل محور إيراني شيعي مقاوم. وغير أن هذه المحاور ليست ثابتة الهوية، بل مرنة وشبه وظيفية، تتحرك بحسب منطق التهديد المشترك لا التوافق الإيديولوجي. ومن هنا تبرز مفارقة الشرق الأوسط: التحالفات فيه تُبنى على مشتركات الخوف لا على مشتركات الرؤية.
ثالثاً: البعد العقائدي والسياسي: صراع الهويات واستخدام التعبئة الرمزية
لا يمكن تفكيك الديناميات الصلبة للصراع الإيراني-الإسرائيلي دون الغوص في أبعاده الرمزية والهوياتية، حيث يتحوّل الخطاب إلى سلاح، وتُصبح الذاكرة التاريخية ميدانًا موازٍ للمواجهة العسكرية.
فإسرائيل، بوصفها كيانًا نشأ تحت وطأة ذاكرة الإبادة، ما زالت تستبطن في عقيدتها الأمنية سردية الوجود المُهدَّد. لقد أعاد رئيس وزرائها – ومن قبله المؤسسة الأمنية – تفعيل صورة إيران بوصفها “تهديدًا وجوديًا” وليس مجرد خصم سياسي. هذا التصور يتغذى من رواسب التاريخ اليهودي الجمعي، ويجد ترجمته في ما يسميه المفكرون بـ”ردع الكارثة” (Catastrophic Deterrence)، الذي يدفع بصانع القرار إلى اتخاذ أقصى درجات المبادرة إذا ما شعر أن لحظة الخطر اقتربت من خط اللاعودة.
وفي المقابل، تتموضع إيران الثورة داخل سردية دينية/تحريرية، حيث يُقدَّم الصراع مع إسرائيل كامتداد لمعركة بين الحق والباطل، لا بين دولتين. ولقد بُنيت هوية الجمهورية الإسلامية على مركزية القضية الفلسطينية كمعادل لشرعيتها الإقليمية، وتحوّل “رفض إسرائيل” إلى ما يشبه الركيزة التأسيسية لعقيدة الممانعة الشيعية. ولهذا فالمواجهة ليست فقط بين نظامين سياسيين، بل بين سرديتين متناقضتين في الجوهر: إحداهما تؤسس وجودها على التهديد بالزوال، والأخرى على وعد المقاومة والتحرير.
وهذا الاشتباك الرمزي يفتح الباب أمام تعبئة هوياتية عميقة تُصعّب التراجع. إذ تستحضر إسرائيل أسطورة “ماسادا” في مواجهة الانهيار، فيما تستحضر إيران ملحمة “كربلاء” في تبرير التضحية والتمدد. ووفق تحليل المفكر ألكسندر ويندت، فإن النظام الدولي لا يُبنى فقط على القوة الصلبة، بل على الصور المتبادلة للذات والآخر. وهنا، فإن المخاوف ليست معطيات موضوعية بل انعكاسات لهويات ثقافية وتاريخية لا يمكن إخضاعها بسهولة لمنطق المصالح فقط.
سياسيًا، يستثمر الطرفان هذا التصعيد واستمراره لترسيخ قبضتهما الداخلية؛ إيران توظف الخطاب المقاوم كوسيلة لاحتواء التململ الشعبي وتبرير فشلها الاقتصادي، مستفيدة من “الخطر الإسرائيلي” كأداة تعبئة، ومراقبة داخلية. أما في إسرائيل، فإن التصعيد مع إيران يأتي في لحظة انقسام داخلي حاد حول قضايا الحكم والهوية ودور القضاء والفشل في غزة، ويُستخدم من قبل القيادة السياسية كمحرّك لتوحيد الصفوف الصهيونية، واستعادة تماسك الجبهة الداخلية تحت هاجس “الأمن القومي”. ومع ذلك، فإن معضلة الطرفين تكمن في خطورة الإفراط في استخدام الرموز: فكل تعبئة إيديولوجية تخلق سقفًا مرتفعًا للتراجع، وتحوّل التسوية إلى ما يشبه “الخيانة الرمزية”.
رابعاً: البعد الاقتصادي: التنافس عبر أمن الطاقة والعقوبات والموارد الاستراتيجية
في الصراعات الدولية الحديثة، يتجاوز ميدان الحرب النطاق العسكري ليمتد إلى المجال الاقتصادي الذي بات اليوم ساحة حيوية للمناورة والضغط. والحرب الإيرانية الإسرائيلية الجارية ليست استثناءً من هذه القاعدة، بل تقدم نموذجًا حيويًا لما يُعرف بـ”الجبهة الاقتصادية” ضمن منظومة الردع المتبادل.
فالشرق الأوسط، بما يمثله من مركزٍ عالمي للطاقة، يقع في قلب معادلة الأمن الاقتصادي العالمي. ويكفي التذكير بأن مضيق هرمز وحده يؤمن عبور قرابة 20% من النفط العالمي، ليُفهم مدى حساسية أي تهديد عسكري في تلك المنطقة. وقد ألمحت إيران بوضوح إلى أنها تحتفظ بخيار إغلاق المضيق أو عرقلته كجزء من أدوات ردعها الرديفة، وهو ما وصفه الجنرال قاسم سليماني سابقًا بـ”الخنق الإستراتيجي للغرب عبر صمام الطاقة”.
في المقابل، فإن أي هجوم مباشر أو غير مباشر على منشآت الغاز الإسرائيلية شرق المتوسط أو استهداف خطوط تصدير النفط الخليجية، سيعني رفع أسعار الطاقة عالميًا، وربما إدخال الاقتصاد الدولي في حالة “صدمة سوقية” شبيهة بما عرفه العالم في سبعينيات القرن الماضي. ولقد تحولت منشآت الطاقة في المنطقة – من بحر عمان إلى عسقلان – إلى أهداف محتملة في حال تمدد نطاق الحرب، خاصة في ظل تهديدات أذرع إيران العسكرية (مثل الحوثيين أو كتائب المقاومة في العراق) بتوسيع جغرافيا الاستهداف.
وفي هذا السياق، لا يقل سلاح العقوبات تأثيرًا عن سلاح الصواريخ، إذ تخضع إيران لحصار اقتصادي متشعب أدّى إلى إنهاك قطاعاتها المصرفية والصناعية. وتقوم الولايات المتحدة بتعقّب كل مسارات تهريب النفط الإيراني في عرض البحار، وتفكيك شبكات التمويل التابعة للحرس الثوري، بما يمنع إيران من إعادة استثمار العوائد النفطية في مشاريعها العسكرية والإقليمية. بالمقابل، تلجأ طهران إلى ما يمكن وصفه بـ”اقتصاد الظل”، معتمدةً على أسواق غير رسمية، ودعم صيني وروسي متدرج، لتأمين الحد الأدنى من استمرارية المجهود الحربي والروحي لحلفائها الإقليميين.
أما إسرائيل، ورغم ما تتمتع به من اقتصاد متقدم ومنظومة تكنولوجية رائدة، فإنها ليست بمنأى عن التداعيات. فالتعبئة العامة، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وتذبذب الأسواق المالية، كلها مؤشرات على الكلفة الاقتصادية المتنامية للحرب. أضف إلى ذلك ما يُعرف بتأثير “الضربة الموجهة”، حيث يكفي أن تستهدف منشأة غاز في حيفا أو منشأة أمنية في أشدود، لتضطرب حركة الاستيراد والتصدير الإسرائيلية، وتنهار الثقة بالسوق.
إن ما نشهده اليوم هو تسييس متسارع لأمن الطاقة وتكريس لأدوات العقوبات كسلاح استراتيجي، في ما يشبه حرب موارد من الجيل الرابع، يتم فيها تقويض قدرات العدو عبر خنقه اقتصاديًا قبل هزيمته عسكريًا. لكن الكلفة لا تقف عند أطراف النزاع فقط، فكلما طال أمد الحرب أو توسعت رقعتها، اقتربت أسواق الطاقة من الحافة، وارتفعت احتمالات الركود الاقتصادي العالمي، مما يضغط حتى على الدول الكبرى للتدخل والوساطة.
خامساً: البعد السيبراني والإعلامي: المواجهة في ميدان الوعي والبيانات
بات من المسلّم به أن ساحة الحرب لم تعد تنحصر في الأرض والجو، بل أصبحت المعارك تدور بشكل متوازٍ في الفضاء السيبراني والمجال الإعلامي، ضمن ما يُعرف بـ”الردع الإدراكي” أو “الاشتباك الرمزي”. وفي هذا السياق، تقدم الحرب الإيرانية الإسرائيلية نموذجًا متطورًا لهذه الحرب متعددة الطبقات.
فعلى مستوى الإعلام، يسعى الطرفان إلى السيطرة على رواية الحدث، مستبقين حتى نتائج المعركة الميدانية؛ إذ تُعلن إيران عن إصابات دقيقة في العمق الإسرائيلي، بينما تبادر إسرائيل إلى بث صور لاعتراضات ناجحة للصواريخ وتقلل من حجم الأضرار، فيما تضج وسائل التواصل بمقاطع مجتزأة، أو مضللة، في معركة إدراك لا تقل ضراوة عن المعركة الحربية.
وقد أصبحت الحسابات الرسمية وغير الرسمية على “إكس” وتليغرام ويوتيوب بمثابة غرف عمليات نفسية، تُستخدم فيها لغة التهديد، والسخرية، والإذلال الرمزي، كأدوات تفتيت معنوي. في الوقت نفسه، استُخدمت وسائل الإعلام التقليدية لأجل التعبئة الداخلية والتحريض الخارجي، مما أعاد تفعيل الخطاب التعبوي الشعبوي في كلي الطرفين.
وأما على صعيد الحرب السيبرانية، فقد تطورت المواجهة إلى مستوى غير مسبوق. إذ يُنسب لإسرائيل استهدافها المبكر للبنية التحتية النووية الإيرانية بفيروس ستاكسنت عام 2010م، فيما حاولت إيران مرارًا اختراق منشآت المياه والكهرباء في الداخل الإسرائيلي، وتمكنت من تنفيذ هجمات جزئية على موانئ ومنصات رقمية.
ويشير الخبراء إلى أن الطرفين يعتمدان مبدأ “الضغوط المحدودة” – أي شن هجمات سيبرانية دقيقة دون تجاوز عتبة التصعيد الاستراتيجي. وهذه الهجمات تعمل بمثابة رسائل ردع غير تقليدية، وتُظهر أن المعلومة قد تكون أحيانًا أخطر من الصاروخ. ويُخشى اليوم من لحظة فقدان التوازن التي قد تؤدي إلى ما يسميه محللو الأمن الرقمي بـ”الضربة السيبرانية القاضية”، التي قد تشل منشآت حيوية أو مفاعلات نووية.
وقد أدت هذه الحرب غير المتكافئة إلى تراجع الفواصل بين المعركة النفسية والهجوم السيبراني، حيث بات بالإمكان بث إنذارات كاذبة في تل أبيب من خارج الحدود، أو نشر معلومات ملفقة تثير الذعر، أو حتى اختراق تطبيقات الطوارئ.
إن ما نشهده في هذه الحرب هو تكامل بين الجيل الخامس من الحروب (اللاخطية والرمزية)، والجيل الخامس من الحروب هو نمط صراع يتجاوز مفاهيم القوة الصلبة (مثل الجيوش والصواريخ)، ويعتمد على أدوات غير تقليدية لتفكيك الخصم من الداخل، دون خوض معارك ميدانية مباشرة. يُدار هذا النوع من الحروب عبر الإعلام، الشبكات الاجتماعية، الحرب السيبرانية، التضليل المعرفي، الهيمنة النفسية، وأحيانًا خلق سرديات زائفة تهدم الثقة بالدولة أو المؤسسة. وقد صاغ ويليام ليند: مفهوم أجيال الحرب الخمسة عام 1989. وكتب توماس هامز: عن تطور الحروب إلى مساحات غير تقليدية، أو عبر الأدوات الرقمية فائقة التأثير، في ما يمكن تسميته بـ”الحرب على الإدراك”، حيث لا تنتصر الجهة التي تُطلق أكثر الصواريخ، بل من يُقنع العالم بأنها انتصرت.
الخاتمة
تكشف الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن مشهد إستراتيجي شديد التعقيد، تختلط فيه أدوات القوة الصلبة بالناعمة، وتتداخل فيه الجبهات من الخليج إلى المتوسط، ومن الميدان إلى الشبكة. وقد أثبتت هذه الحرب، حتى الآن، أن الردع التقليدي لم يعد كافيًا أمام خصم يمتلك عقيدة مرنة، وأذرع متعددة، وإرادة سياسية عقائدية. ورغم التفوق الإسرائيلي في التكنولوجيا والتسليح، فإن إيران تدير الصراع بنموذج “الإنهاك المتدرج” و”الردع المتموضع”، ما يجعل من كلفة الحسم العسكري المباشر عالية جدًا. وفي المقابل، تدرك طهران أن أي استهداف مباشر للعمق الإسرائيلي سيقابل برد نوعي قد يهدد أمن نظامها، مما يُبقي الصراع عند حدود “ردع متبادل هش”.
إن مستقبل هذه الحرب يتوقف على قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على ضبط الإيقاع، وتفعيل خطوط التفاوض، وضمان ألا تنفلت شرارة الحرب نحو مواجهة إقليمية كبرى. وما لم يتحقق ذلك، فإن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة من التنافس الاستراتيجي المفتوح، حيث تُرسم خرائط الردع والسيادة بالردع التكنولوجي، والطيران المُسيّر، والتجنيد العقائدي والإعلامي.
المصادر والمراجع
– Carl von Clausewitz, On War, edited and translated by Michael Howard and Peter Paret (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1984).
– Center for Strategic and International Studies (CSIS), The Iranian Way of War: How and Why Iran Uses Force, December 2022, https://csis.org.
– Daniel Yergin, The Prize: The Epic Quest for Oil, Money & Power (New York: Simon & Schuster, 1991).
– Vali Nasr, The Shia Revival: How Conflicts within Islam Will Shape the Future (New York: W. W. Norton, 2006).
– Ynet News, “Cyber War Heats Up: Iranian Hackers Target Israeli Infrastructure,” Ynetnews, April–June 2024, https://ynetnews.com.
– Ze’ev Schiff and Ehud Ya’ari, Israel’s Lebanon War, trans. Ina Friedman (New York: Simon & Schuster, 1984).