في زمن العبث والانكسار… حين يغدو الزيف قانوناً

في زمن العبث والانكسار… حين يغدو الزيف قانوناً

في عالمٍ مشبَّعٍ بالضباب والتشويش، مَجبولٍ على التناقض والازدواج، يصبح الفرز بين النور والظلمة ضربًا من المغامرة العقلية، ومخاطرةً في قلب المتاهة… ؛  فحين تتكاثر الأصوات، وتتشابه الأقنعة، وتهترئ المعايير، تنقلب الحقائقُ على رؤوسها، ويتحوّل الباطلُ إلى قاعدة ذهبية، بينما يُداس الحق تحت أقدام المصلحة والجهل والتبعية.

في هذا العالم، لا يكفي أن تكون نبيهاً أو متعلماً لتنجو؛ إذ إن الأبالسة الجدد لا يخرجون من كهوف الظلام، بل يأتونك بأسماء براقة، وعناوين أنيقة، ويحملون شعاراتٍ تُرَصّع بالوطنية أو الدين أو القيم العليا…؛ لكنها في العمق ليست سوى طُعومٍ لاصطياد العقول، وسلاسل ناعمة لتقييد الوعي.

فالعقل الحرّ في بيئةٍ ملوثةٍ بالتضليل، والمُخدَّرة بالدعاية، يصبح كالشجرة الوحيدة في صحراء من الملح… ؛ لا تجد ماءً يسقيها، ولا ظلًّا يحميها، بل ريحًا ساخنةً تحاول اقتلاعها من جذورها… ؛  وهكذا، يُنتَج الجهل على هيئة عقيدة، وتُزرع الخرافة كأنها علم، ويُروّج للباطل تحت رايات الحُرية والتقدم.

إنّ الوعي الحقيقي لا يُمنح، ولا يُورَث، بل يُنتزع انتزاعًا من بين أنياب الخوف، ويُغرس في أرضٍ لا تقبل إلا الحقيقة. والمرء، إن أراد أن يرى، عليه أولاً أن يزيل الغشاوة التي صُبَّت على عينيه منذ الطفولة، وأن يشكّ، لا من باب الهدم، بل من باب الفحص والتنقيب.

إنهم – أبالسة الظل – لا يظهرون على هيئة شياطين، بل كأنصاف ملائكة… ؛ و يهمسون في أذان الجماهير، ويروّجون  بينهم السرديات الكاذبة، ويعيدون صياغة التاريخ بأدوات الخداع البصري والسمعي والمعرفي… ؛ و يصنعون “الزيف الكامل” كما يصنع الفنّان تحفته: يصقِلونه، يجمّلونه، يضعونه في إطار من نور مزيف، ثم يعرضونه في صالات العقول الجاهزة للاستسلام.

وفي مثل هذه اللحظة الحضارية الحرجة، تصبح مسؤولية التفكير أشبه بالجهاد… ؛  ليس بالسيف، بل بالفكرة؛ ليس بالهدم، بل بالبناء؛ ليس بالثورة العنيفة، بل بالثورة العقلية الصامتة، التي تعيد ترتيب المفاهيم، وتكسر الأصنام الرمزية، وتوقظ العقل من غفوته الطويلة.

هكذا تتبدّى لنا مهمة الإنسان المفكر في عالمٍ يعجُّ بالتزييف: أن يكون صوتًا صغيرًا في وجه الصخب، شعلةً ضئيلة في غابةٍ من الظلمة، عينا فاحصة وسط بحرٍ من العمى الجماعي… فلا ييأس، ولا يساوم، ولا يتنازل عن حقيقتِه، حتى لو بُحَّ صوته وتكسّرت أقلامه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات