17 يونيو، 2025 11:26 ص

العدوان (الإسرائيلي) على إيران (13 حزيران 2025): معضلة الأخلاق والواقعية والأيديولوجيا

العدوان (الإسرائيلي) على إيران (13 حزيران 2025): معضلة الأخلاق والواقعية والأيديولوجيا

في الثالث عشر من حزيران 2025، شهد الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق تمثل في عملية الأسد الصاعد (Rising Lion)، وهي عملية عسكرية (إسرائيلية) واسعة النطاق استهدفت منشآت نووية ومواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني. تجاوزت هذه العملية كونها مجرد اشتباك عسكري، لتُبرز تعقيدات الصراع الإقليمي وتدهور مفاوضات الملف النووي. إن فهم هذا الحدث يتطلب تحليلًا عميقًا يتجاوز الجانب العسكري، مستكشفًا دوافعه ومشروعيته وتداعياته من منظور الفكر السياسي.

يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة شاملة للضربة من خلال ثلاث مقاربات تحليلية متكاملة: نظرية العدالة في الحرب لفهم الأبعاد الأخلاقية، ومنطق الواقعية السياسية للكشف عن الدوافع الاستراتيجية، وتحليل الخطاب الأيديولوجي لتوضيح دور السرديات في تشكيل الوعي وصنع القرار. هذا المزيج النظري يهدف إلى تقديم رؤية متعددة الأوجه تدمج بين الجوانب الأخلاقية والاستراتيجية والسردية لهذا الحدث المفصلي.

أولاً: نظرية العدالة في الحرب – بين الضرورة الأخلاقية والتكلفة الإنسانية

تنطلق نظرية العدالة في الحرب (Just War Theory) من مبدأ أن الحروب ليست متساوية في مشروعيتها، وأن بعضها قد يكون مبررًا أخلاقيًا إذا استوفى شروطًا معينة. أبرز هذه الشروط هي: وجود سبب عادل (Jus ad Bellum)، والتناسب (Proportionality) بين الأهداف والوسائل، والتمييز (Discrimination) بين الأهداف العسكرية والمدنية.

في سياق الضربة (الإسرائيلية)، بررت تل أبيب عمليتها بأنها ضربة استباقية لتعطيل مسار إيران نحو امتلاك سلاح نووي، معتبرة إياه تهديدًا وشيكًا لأمن إسرائيل القومي ووجودها. هذا التبرير يستند إلى مبدأ السبب العادل. ومع ذلك، فإن الإشكال الأخلاقي لا يقتصر على النوايا، بل يمتد إلى الوسائل والنتائج على أرض الواقع.

أسفرت الضربة عن مقتل ما لا يقل عن 78 شخصًا، من بينهم مدنيون وعلماء غير عسكريين، إضافة إلى أضرار واسعة في البنية التحتية. هذه النتائج تلقي بظلال من الشك على مبدأ التناسب، إذ تبدو الكلفة البشرية والمدنية أعلى من المكاسب العسكرية المعلنة. كما أن استهداف مواقع قريبة من مناطق سكنية يضعف من الالتزام بمبدأ التمييز، الذي يفرض حصر الأذى في المقاتلين لا المدنيين الأبرياء.

من هذا المنظور، قد تحمل الضربة بعض مبررات الضرورة الدفاعية أو الدفاع الوقائي (Preemptive Self-Defense)، لكنها تفتقر إلى التوازن الأخلاقي الكامل، مما يضع مشروعيتها موضع مساءلة فلسفية وقانونية عميقة.

ثانياً: الواقعية السياسية – منطق البقاء وإعادة تشكيل ميزان القوى

تعد الواقعية السياسية (Political Realism) العلاقات الدولية ساحة صراع دائم تحكمها اعتبارات القوة والمصلحة القومية، وليس بالضرورة القيم أو القانون. وفقًا لهذا المنطق، لم تكن (إسرائيل) مدفوعة فقط بالخوف من الخطر النووي الإيراني، بل بسعي حثيث لإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة لصالحها.

رأت (تل أبيب) أن المسار الدبلوماسي قد فشل في كبح جماح الطموح النووي الإيراني، خاصة في ظل تعثر المفاوضات وتراخي الموقف الدولي. واعتبرت أن امتلاك إيران لسلاح نووي – أو حتى اقترابها من ذلك – سيؤدي إلى انهيار الردع التقليدي ويجعلها أكثر جرأة في دعم أذرعها العسكرية في لبنان وسوريا والعراق. لذلك، تصرفت (إسرائيل) بمنطق استباقي لتعزيز أمنها ومنع خصمها من الوصول إلى عتبة التفوق الاستراتيجي، وهو ما يُعرف بـتوازن القوى (Balance of Power).

جاءت الضربة أيضًا في توقيت سياسي حساس إذ سعت (إسرائيل) إلى إعادة ترسيخ دورها كقوة مركزية في الشرق الأوسط، قادرة على التحرك منفردة إذا اقتضت الضرورة، حتى في ظل تغير الأولويات الأمريكية العالمية. من هذا المنطلق، لم تكن الضربة مجرد حماية لأمنها، بل كانت أيضًا محاولة لإعادة ضبط المشهد الإقليمي وفق معادلات القوة والمخاوف الاستراتيجية، مؤكدة على مبدأ المصلحة القومية العليا (National Interest) كدافع أساسي.

هكذا، توضح الواقعية السياسية أن الضربة كانت أداة لتحقيق مصلحة الدولة العليا، حتى لو كان ذلك على حساب المعايير القانونية الدولية أو التوافقات الدبلوماسية.

ثالثاً: تحليل الخطاب الأيديولوجي – سرديات الصراع وصناعة الشرعية

إلى جانب المبررات الأمنية والاستراتيجية، أدى الخطاب السياسي والإعلامي (Political and Media Discourse) دورًا حاسمًا في بناء الشرعية للهجوم وتوجيه الرأي العام داخليًا وخارجيًا.

على الجانب (الإسرائيلي)، صيغ الخطاب حول فكرة التهديد الوجودي (Existential Threat)، وتم توظيف مصطلحات ثقيلة الرمزية مثل (الهولوكوست النووي) و(الإبادة المتوقعة) لإقناع الداخل (الإسرائيلي) والمجتمع الدولي بضرورة التحرك. هذا الخطاب لا يهدف فقط إلى تبرير الفعل العسكري، بل لتحويله إلى واجب أخلاقي، يُسوّغ فيه الحرب بوصفها دفاعًا عن البقاء، مستفيدًا من نظرية التهديد الوجودي (Existential Threat Theory) في صياغة السردية.

أما على الجانب الإيراني، فقد استُخدمت الضربة لصياغة خطاب مقاوم، يربط بين الهجوم والسياسات الإمبريالية الأمريكية-(الإسرائيلية)، ويضع القتلى في مصاف شهداء الأمة. الهدف هنا ليس فقط الرد على العملية، بل تحويلها إلى عامل تعبئة داخلية، وتأكيد على صمود الدولة في وجه العدوان الخارجي، مستخدمًا نظرية المؤامرة (Conspiracy Theory) لتعزيز الرواية الرسمية.

يعكس هذا التنازع الخطابي كيف تُدار الحروب اليوم، ليس فقط بالأسلحة، بل أيضًا بـالكلمات والسرديات (Narrativesإذ تؤدي هذه الأخيرة دورًا محوريًا في تشكيل الوعي، وتوجيه المواقف، وإضفاء الشرعية أو نزعها عن الأفعال السياسية والعسكرية. إنها حرب على العقول بقدر ما هي حرب على الأرض.

ختاماً، إن الضربة (الإسرائيلية) لإيران في حزيران 2025 تمثل نموذجًا معقدًا لفهم التداخل بين الأخلاق (Ethics)، والمصلحة (Interest)، والخطاب السياسي (Political Discourse) في إدارة الصراع الدولي. فهي من جهة، تطرح أسئلة حادة حول عدالة استخدام القوة، ومدى التزام الدول بالقانون الدولي الإنساني. ومن جهة ثانية، تكشف كيف تحكم الواقعية السياسية منطق القرارات الكبرى، عندما يتقاطع الأمن القومي مع حدود العمل الدبلوماسي. ومن جهة ثالثة، تُبرز أهمية الخطاب في صياغة معاني الحرب والسلام، وفي بناء سرديات الشرعية والمظلومية.

بين هذه الأبعاد الثلاثة، يتجلى دور علم السياسة (Political Science) بوصفه أداة لفهم الصراعات لا كحوادث معزولة، بل كتحولات تحمل دلالات أعمق عن موازين القوة، وتبريرات السلطة، وحدود الأخلاق في عالم مضطرب. إن تحليل مثل هذا الحدث لا يثري المعرفة السياسية فحسب، بل يعزز من قدرتنا على تفكيك منطق القوة، وفهم تأثيره على استقرار النظامين الإقليمي والدولي.

إن ما جرى في حزيران 2025 بين (إسرائيل) وإيران يتجاوز كونه عملية عسكرية محدودة، ليعبر عن أزمة مفاهيمية في النظام الدولي المعاصر: أزمة في شرعية استخدام القوة، وأزمة في فعالية القانون الدولي، وأزمة أعمق في فهم توازن المصالح والسيادة من جهة، مقابل المبادئ الأخلاقية من جهة أخرى.

بناءً على ما تقدم، يمكن تقديم التوصيات التالية لتعميق البحث والفهم:

إعادة تقييم مفهوم الضربة الاستباقية، في ظل تصاعد التهديدات غير التقليدية، كالسلاح النووي أو الحروب السيبرانية، يجب إعادة تقييم مفهوم الضربة الاستباقية من حيث مدى مشروعيتها وقيودها الأخلاقية، خاصة في سياق التهديدات غير المتماثلة (Asymmetric Threats).

إحياء النقاش حول فعالية القانون الدولي، هل ما زال القانون الدولي قادرًا على ضبط سلوك الدول الكبرى؟ وهل ما زال ممكنًا بناء نظام عالمي قائم على الردع القانوني لا الردع العسكري، أم أننا نشهد تآكلًا في سلطة القانون الدولي؟

ضرورة دراسة الخطابات السياسية كأداة للصراع، إذ يجب فهم كيف تُستخدم اللغة والرموز والسرديات في خلق قبول اجتماعي للعنف، أو شرعنة الهيمنة، أو بناء هوية وطنية في سياق الصراع. هذا يتطلب مقاربة أعمق لـتحليل الخطاب النقدي (Critical Discourse Analysis).

تشجيع المقاربات المركبة في تحليل النزاعات، كون الاقتصار على بعد واحد – سواء أمني أو قانوني أو اقتصادي – قد يُفضي إلى قراءة سطحية لا تعكس التعقيد البنيوي للحرب المعاصرة والصراعات الدولية. يجب تبني منهجيات متعددة التخصصات (Interdisciplinary Approaches) لتقديم تحليل أكثر شمولية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات