عندما كان رامسفيلد وزيرا للدفاع الأمريكي , تعرض جيشه الموجود في العراق إلى مجموعة كبيرة من الهزائم والخسائر بسبب هجمات المقاومين , وعندما سال عن أسباب ذلك أجاب بطلاقة كاملة بان الجيش الذي أرسل للعراق قد تم تدريبه بشكل كافي للمهام القتالية بدليل قدرته على احتلال العراق بأيام ولكنه لم يدرب على حرب المدن , وفي ضوء ذلك تم تبديل بعض وحداته بمتدربين بهذا الخصوص كما تم إخضاع مجموعات أخرى من قطعاته على حرب المدن على يد أفضل المدربين , ورغم هذه الإجراءات فقد بقي الجيش الأمريكي يتكبد الخسائر تلو الخسائر, مما دعا أصحاب القرار الأمريكي لإيجاد مسوغات للخروج من العراق .
وقد ذكرتني تلك الحالة بما حصل لجيشنا في الموصل وقبلها في بعض المهمات , فأفراد السيطرة التي تتواجد بالقرب من محل سكني صدرت لهم الأوامر للانتقال إلى مهام قتالية ليس لمواجهة جيشا نظاميا وإنما لمواجهة مجموعات مسلحة بما يشبه إلى حد كبير حرب العصابات , وصحيح إن من تم تكليفهم بهذه الواجبات يمتلكون الأسلحة والاعتدة ويتمتعون بغطاء جوي ولو كان متواضع وإسناد من قبل صنوف الأسلحة , ولكن المشكلة إن تدريبهم لم يتم على أساس حرب المدن والعصابات وإنما يمتلكون بعض الخبرات في السيطرات , وهذه الخبرات لم تبنى على أساس التدريب العلمي والميداني وإنما على قاعدة المحاولة والخطأ وبعض التدريب الأساسي .
ومن ضمن ما يعنيه ذلك , إن جيشنا ليس غير صالحا للخدمة العسكرية ولكنه قد يكون غير مهيأ لهكذا أنواع من القتال , اخذين بنظر الاعتبار إن أكثرهم لم يعيشوا معسكرات ولم يدخلوا في دورات التعبئة والميدان والفرضيات بشكل مكثف ومتكرر وغيرها من الأمور العسكرية التي تعد من أساسيات الإعداد العسكري , فالممارسات في المعسكرات تختلف جذريا عن التواجد في السيطرات , لان التواجد في السيطرات غالبا ما يكون في قلب المدن وبتماس مباشر مع المواطنين والمشقة فيها قليلة لان الواجبات تنقضي بعد ساعات , وهذه الساعات يتم تمضيتها بالسوالف والجكاير ومكالمات الموبايلات والحصول على ما لذ وطاب من مستخدمي السيارات وبعدها يأتي موعد النزول .
ومن لم يعمل في السيطرات , فقد يكون تجنيدهم قد تم في مراكز التطوع وهذه المراكز ليس بالضرورة أنها تستقطب المؤمنين بالعقيدة العسكرية لان نسبة مهمة منهم قد جاءوا تحت وطأة البطالة ومن باب الحصول على مرتب شهري شبه مجزي , لان العسكرية بالنسبة لهذا البعض أفضل من العمل في العمالة التي توقف الطلب عليها بسبب انحسار حركة البناء للأسباب التي لا نريد أن ندخل في تفاصيلها الآن , وما عدا الجنود والمراتب فان مقرات السرايا والأفواج والألوية والفرق قد تحولت إلى أماكن فارهة وتتمتع باستثناءات من القطع المبرمج وغير المبرمج للكهرباء , وتحتوي على أفضل الأثاث والتجهيزات والأرزاق ومستلزمات التدفئة والتدريب وغيرها من الرفاهية .
القصد من ذلك , إن أبناء قواتنا المسلحة ليسوا فاقدي الغيرة والوطنية والشهامة ( لاسامح الله ) فبإمكانهم أن ينجزوا أعظم المهمات إذا توفرت لديهم ظروف التدريب والتأهيل والإعداد المهني والمعنوي والجسدي , فهم أبناء عوائل وعشائر ولجوء بعضهم للعمل في الجيش بدلا من البقاء عاطلين أو متسولين أو لجوئهم لأساليب غير مشروعة للعيش , يدل على أصالتهم وتربيتهم وأخلاقهم الحسنة وحسهم الوطني , كما إنهم ورثوا جيش وطني كانت له وقفات مشهودة على الصعيدين الوطني والقومي , وهو الجيش نفسه ( مثلا ) الذي أبدى أعظم المواقف حين تعرضت محافظات ومدن وقرى العراق للغرق قبل اشهر حيث جسدوا الشهامة والرجولة بأسمى صورها لنجدة المواطنين وممتلكاتهم .
ومن الخطأ المقارنة بين ما حصل للجيش في الموصل مع ما حصل للجيش في حربي الخليج الثانية والثالثة في السنوات 1991 و 2003 على أساس إنها حالات متوارثة , لان ما حصل قبل أيام يجب تحليله وإيجاد الحلول والمعالجات اللازمة بمعزل عن الحالات السابقة , لان هناك عوامل ومتغيرات تختلف عن سابقاتها بشكل كامل , وهذا لا يعني إننا نبرر ما حصل في الموصل لأنها كبوة تستحق المراجعة , ولكنها في كل الأحوال لا تجيز أن نصدر أحكاما بعدم صلاحية جيشنا بان يكون جديرا لحمل اسم جيش العراق , وفي مقدمتنا اشرنا إلى بعض الأسباب ومن الممكن للمختصين أن يسهبوا أكثر في تحليلاتهم لكي تصحح الأخطاء,كما لايصح التعميم في مثل هذه الحالات والظروف .
إن الظرف الذي يمر به بلدنا العزيز في تعرضه إلى هجمات إن لم نتعاون جميعا في التكاتف لمواجهتها , فأنها ستمتد إلى أية مدينة في العراق وبضمنها العاصمة بغداد وهو ما يتطلب الاستعانة بالكفاءات الوطنية العسكرية الحقيقية لإيجاد معالجات سريعة تتقدم على تفكير الأعداء , لكي ندرأ الخطر ثم نجد معالجات جذرية للموضوع , دون أن ننسى إن تحميل الجيش مسؤولية ما حصل للجيش سنة 2003 قد أباح للبعض حل الجيش العراقي لتسويغ للقبول بالاحتلال فهل يتكرر الأمر نفسه لكي نسوغ لدخول الدواعش أو من يكون من التسميات ؟ فهذا ذنب لايمكن أن يغتفر ولكي لا يحصل ذلك فيجب أن لا نستسهل التعميم وإنما نجد الحلول السريعة للمعالجات .
ولكي تكون المعالجات صحيحة , فيجب أن تخلو من المجاملات وإبعادها عن المحاباة , كما يجب أن تتحلى بالصراحة ونكران الذات , فتشخيص الخطأ أو الأسباب هو مفتاح الحلول أما التستر على هذا أو ذاك على أساس الطائفة أو القومية أو الانتماء الحزبي , فانه من اكبر الكبائر لأننا في قلب العاصفة وليس في سفرة سياحية , ومن الممكن أن نتوسع بهذه التحليلات بعد انتهاء الأزمة الحالية لمواجهة الأزمات القادمة لان الأزمات سوف لا تتوقف ما دمنا غير متوحدين في المواقف , كم يجب أن لا تكون الظروف الحالية سببا لكي يتفضل علينا بعض المنتفعين بحيث يملوا علينا شروطهم على حساب الدستور والثوابت الوطنية فيما بعد , وليعلم من يعنيه الأمر أن الدفاع عن الوطن ليس من مسؤولية الجيش فحسب وإنما من مسؤولية الجميع .