14 يونيو، 2025 12:44 ص

كاسترو باع السكر ليحيا الوطن وهنا باعوا الوطن ليشتروا القصور

كاسترو باع السكر ليحيا الوطن وهنا باعوا الوطن ليشتروا القصور

الأوطان لا تبنى إلا بالأحرار الذين يؤمنون أن الكرامة لا تشترى وأن السيادة لا تُمنح من موائد الأقوياء بل تنتزع بعرق الكادحين ودماء المضحين وبينما كنت أقلب صفحات من تاريخ الثورة الكوبية قادتني الذاكرة إلى صورة ذلك القائد الذي عاش ومات كما يولد الثوار بلا زينة ولا ترف فيدل كاسترو الذي غادر الدنيا وهو لا يملك إلا بدلتين زيتونيتين وسيكارة من نوع جرود لم يسكن القصور ولم يركب اليخوت ولم يملك أرصدة في بنوك العالم بل سكن في قلوب الملايين من الفقراء والمظلومين الذين رأوا فيه رجلا يشبههم يقاسمهم الجوع والأمل والرصاص والكرامة

توقفت طويلا أمام موقف تاريخي له عندما عرض عليه الاتحاد السوفياتي دعما ماليا ضخما بقيمة مئة مليون دولار في زمن كان المال فيه قادرا على تغيير مصائر دول وشعوب لكنه رفض واستبدل هذا العرض باقتراح بسيط وعميق اشتروا سكرنا ومنتوجنا الوطني لا نريد معونات ولا تبرعات نريد أن نعيش بأقدامنا لا على أكتاف غيرنا تلك ليست مجرد صفقة بل هي عقيدة ثورية ترى في الاكتفاء الذاتي شرطا للحرية وترى في المعونة قيدا يخنق القرار ويهين الكرامة لقد أسس كاسترو بذاك الموقف درسا لكل من يريد أن يبني دولة حرة إن الإنسان لا يكون حرا إذا كان خبزه من غير أرضه ودواؤه من غير صناعته وسياسته مرهونة بمشيئة الآخر

وليس بعيدا عن كاسترو كانت روح جيفارا تجوب أدغال أمريكا الجنوبية وتحمل البندقية من غابة إلى غابة ومن جبل إلى جبل من كوبا إلى بوليفيا مرورا بقلوب الشباب في فلسطين ولبنان وبغداد ودمشق لا لأنه كان يقاتل من أجل وطنه فقط بل لأنه قاتل من أجل الإنسان كل الإنسان جيفارا الذي صار صورة ترفع على صدور الشباب لم يكن يبحث عن سلطة ولا جاه بل كان يبحث عن معنى جديد للعدالة معنى يتجاوز الجغرافيا والحدود واللغات إلى قيم إنسانية لا تموت وتأخذنا الذاكرة إلى العراق إلى وجه الزعيم عبد الكريم قاسم الذي خرج من بين صفوف الشعب ورفض امتيازات الحكم وعاش نظيفا ومات شهيدا في استوديو الإذاعة على يد زمرة من المتآمرين الذين لم يتحملوا وجود رجل لا يخضع ولا يساوم كان قاسم صورة نادرة للقيادة العراقية الوطنية التي لم تغوها شهوة الكرسي ولا باعها بريق الخارج فكان بحق ابن العراق البار الذي لا يتكرر كثيرا في المقابل يطل علينا اليوم مشهد عراقي قاتم فيه الكثير من المتاجرين بالشعارات أولئك الذين تحدثوا باسم الثورة والدين والمذهب وهم أول من باعوا الوطن في المزاد العلني باعوه للدولارات والولاءات الخارجية تحولت الشعارات إلى أدوات للاستثمار والرموز إلى ديكور فاقد للمعنى والعمامة إلى رخصة للنهب والسلاح إلى وسيلة لترهيب المواطن لا لتحريره أين هم من كاسترو الذي رفض المال من أجل السكر ومن جيفارا الذي اختار الغابة على القصر ومن عبد الكريم قاسم الذي دفن دون أن يملك بيتا أو عقارا هؤلاء الذين صعدوا على أكتاف الفقراء وتحولوا إلى قادة قوائم وملوك صفقات لا يشبهون الثوار في شيء كنا نظن أن الزمن سيحمل لنا ثوارا من طراز كاسترو وجيفارا لكن الذين جاؤوا جاؤوا حاملين حقائبهم لا مبادئهم كانوا يتحدثون عن العدالة وهم أكثر الناس ظلما وعن الزهد وهم أكثر الناس ثراء وعن الحسين وهم أبعد ما يكونون عن الحسين كان الحسين ينام على التراب وهم ينامون في القصور كان الحسين يواجه السلطة بالحق وهم يحمون سلطتهم بالباطل ويبقى السؤال الصامت المؤلم أين أنت يا جيفارا من آلام العراقيين من جياع البصرة ومعذبي الموصل وأيتام بغداد من شباب يرفعون صورتك على صدورهم ويبحثون عنك في ساحات التظاهر فلا يجدون إلا الهراوات والغاز والموت البارد أين أنت من وطن صار الفساد فيه دينا والسارق فيه محترما والشريف فيه متهما إن الأوطان لا تبنى بالشعارات بل تبنى بالرجال ولا تقوم بالمعونات بل تقوم بالإرادة ولا تنهض بالخطابات بل بالعرق والدم هؤلاء هم الثوار الحقيقيون من رفضوا المال والسُلطة واخترقوا الغابات بحثا عن الحرية أما من يقايض الوطن بالمذهب ويقايض الدماء بالمناصب فهؤلاء ليسوا بثوار بل مجرد تجار في سوق السياسة الرخيصة

هذه هي الحقيقة التي لا يمكن أن تُطمس وهؤلاء هم الذين لا تمحوهم السنون ولا تشوههم الدعايات لأنهم اختاروا أن يعيشوا أحرارا ويموتوا واقفين على تراب الوطن لا على رخام القصور المزيفه .

أحدث المقالات

أحدث المقالات