في أزقة الحلة القديمة، وتحديدًا في محلة جبران، ولِدَ جعفر جواد الكواز سنة 1937م، وقد ارتبط اسمه بلقبٍ شعبيٍ صميم، جاء منمهنة جده الذي كان يبيع المواد الفخارية، فغدا يُعرف بـ“جعفرالكوّاز“. وكأن هذا اللقب الشعبي الذي التصق به منذ النشأة، قدحمل في طياته رمزًا للمثابرة والارتباط بالتراث، إذ تحوّل لاحقًا إلىفخّارٍ من نوع آخر، يصوغ الذاكرة العراقية لا من طين، بل من حبرٍوفهرسةٍ وأرشفة.
نشأ جعفر في الحلة، المدينة التي تفتح أبوابها مبكرًا على الثقافةوالفكر، وتلقّى فيها مبادئ القراءة والكتابة على يد الشيخ هاديعطيوي، ثم أكمل تعليمه في المدرسة الشرقية، فمتوسطة الحلة،ومنها إلى دار المعلمين الابتدائية في بعقوبة حيث تخرّج سنة1956م، ليبدأ مسيرته في التعليم من مدرسة “البصيرة” في جنوبالحلة، معلّمًا للغة الإنجليزية والتربية الفنية. لكنه لم يكن مجردموظفٍ في سلك التعليم، بل مربٍ رسالي، يحمل في قلبه حبًّا للعلم،وفي عقله شغفًا بالفهرسة والمعرفة.
لقد جمَع جعفر الكوّاز في مكتبته الخاصة كنوزًا معرفية، ما بينأمهات كتب التراث، وأعداد نادرة من المجلات العراقية والعربية،جُلِّدت بعناية، واحتُفظ بها وكأنها مخطوطات نفيسة. وقد أنشأ مكتبةصوتية نادرة أيضًا، مازجًا بين الكلمة المكتوبة والمسموعة، كما لو أنهكان يحاول أن يحفظ لذاكرة العراق أصواتها وصورها وحروفها،خشيةَ أن تبتلعها العتمة.
لقد تأثّر الكوّاز بأساتذة كبار في علم الفهرسة والأرشفة، أمثال عبدالحميد العلوجي وكوركيس عوّاد، وسار على خطاهما، فأنجز أعمالاًخالدة في هذا المضمار، من أبرزها:
فهارس مجلة الأقلام العراقية – الجزء الأول.
فهارس مجلة المورد (1977-1982).
فهارس مجلة التراث الشعبي.
حامل الهوى تعب – ذكريات.
أما مقاله الدوري “من أساتذتي“، الذي نشره في جريدة الجنائنالحلية، فكان أشبه بسيرة ذاتية متقطّعة، تُروى من زوايا المدارسالتي درس فيها، وأروقة الطفولة والصبا، لتقدم مشهدًا وجدانيًامفعمًا بالوفاء لمن علّموه.
النقّاد الذين وقفوا عند أثره لم ينظروا إليه بوصفه مجرد مفهرس، بلرأوا فيه حاملًا لهمّ ثقافيّ كبير. فقد وصفه أحدهم بأنه “ذاكرة حيّةللأرشيف الثقافي العراقي“، فيما شبّهه آخر بـ “بوّاب المعارف” الذي جعل الفهرسة جسرًا بين الباحثين والمعرفة، في زمن كانت فيهالفهارس تُنجز يدويًا، وتحتاج إلى صبرٍ ودقة أشبه ما تكون بعملالنسّاخين القدماء.
ومما يزيد من رمزية شخصيته، أنّه أوصى بأن تُودَع مكتبته فيمؤسسةٍ ثقافية، ولم يشأ أن تؤول إلى الورثة كما يفعل كثيرون. وهكذا أودعها صديقه المخلص السيد حسام الشلاه، الذي قامبإهدائها إلى متحف الحلة المعاصر عند تأسيسه، لتُفرد لها إدارةالمتحف ركنًا خاصًا، جعل من هذا الكنز المعرفي متاحًا لكل من أرادالتماس الحكمة من زمن الورق.
توفي جعفر الكوّاز في الحلة يوم 22 آب 2006، ودُفن في النجفالأشرف، تاركًا وراءه إرثًا صامتًا لكنه ناطق في وجدان كل باحثٍ أوقارئٍ أو دارسٍ مرّ ذات يوم بين رفوف مكتبته.
في زمنٍ تفرّقت فيه الذاكرة، كان جعفر الكوّاز يجمعها، يجلّدها،ويصونها. وفي زمنٍ ضاع فيه الأرشيف بين الإهمال والنسيان، بقيهو شاهدًا على جدوى الصبر، وعلى عبقرية التنظيم، وعلى قدسيةالحبر إذا اقترن بالنية الطيبة والعمل المتقن.