خاص: كتب- مشعل يسار:
قدم مؤخرًا كل من الباحثان الروسيان؛ “أولغا بافلوفنا بيبيكوفا”، دكتورة في التاريخ، باحثة أولى، معهد الدراسات الشرقية، الأكاديمية الروسية للعلوم، و”إيرينا يورييفنا جيلينا”؛ دكتورة في التاريخ، باحثة أولى، معهد المعلومات العلمية حول العلوم الاجتماعية، الأكاديمية الروسية للعلوم .دراسة هامة جدًا حول تدمير التراث الثقافي والأثري للعراق وسورية؛ سواء على أيدي الاستعمار الأميركي المباشر أو عن طريق جماعات إرهابية وكيلة مثل تنظيم (داعش)، نشرتها مجلة (ملامح التحولات العالمية: السياسة، الاقتصاد، القانون).. وتعيد (كتابات) تقديمها في بضعة أجزاء للقاريء العربي تباعًا، نظرًا لما جاءت به من معلومات موثقة وراصدة بغاية الأهمية والإفادة…
أنشطة “داعش” في العراق وسورية
مع ظهور تنظيم (القاعدة)، ثم (داعش)، اللذين حاولا محو آثار “العراق وسورية” من الوجود، تفاقمت حالة تدمير الآثار التي لا تنتمي إلى الثقافة الإسلامية.
وقد حوّل إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام؛ (داعش)، في حزيران/يونيو 2014؛ “سورية والعراق” إلى ما يُشبّه سوقًا للآثار. ووفقًا للتقديرات الأولية، تبلغ القيمة الإجمالية للقطع الأثرية التاريخية المنهوبة من “العراق” 10 مليارات دولار. ففي عام 2016، سيّطر تنظيم (داعش) على 4500 موقع أثري في الشرق الأوسط، نصفها تقريبًا (ألفان) في “العراق”. وبين حزيران/يونيو 2014 وشباط/فبراير 2015، دمّر التنظيم حوالي 30 مبنى دينيًا ذا قيمة تاريخية في “العراق” وحده. ولم تقتصر عمليات النهب على الآثار التي تعود إلى ما قبل الإسلام، بل استرشد التنظيم في أفعاله بإيديولوجية الوهابية، التي تجهد في سعيها إلى إقامة التوحيد الإسلامي الكامل إلى تدمير جميع الأديان الأخرى، باعتبار الشرك بالله أكبر الكبائر.
ويسّعى السلفيون - أتباع مباديء الإسلام المبكر – إلى تدمير جميع آثار الديانات السابقة للإسلام، بالإضافة إلى المسيحية، ويدعون إلى تثبيت المذهب الوهابي في كل مكان. فبالإضافة إلى تدمير الكنائس وآثار الحضارات القديمة التي كانت قائمةً في بلاد ما بين النهرين، أرغم الجهاديون الكفار من المسيحيين واليزيديين والشيعة، على اعتناق الإسلام وإلا الإبادة الجماعية.
في العراق، سيطر (داعش) على ما يُسّمى بالمثُلث السَّني – وهو منطقة في العراق تقع شمال وغرب بغداد، يغلب فيها تقليديًا السكان السَّنة من العرب. في هذه المنطقة، دمّر الجهاديون ونهبوا العديد من المستّوطنات والأماكن القديمة التي لا تزال تُجرى فيها الحفريات.
كانت مدينة الموصل (من كلمة موصل التي تعني مفترق طرق)، ثاني أكبر مدينة في العراق، تحت سيّطرة (داعش) من حزيران/يونيو 2014 إلى تشرين أول/أكتوبر 2016. وبعد الاستيلاء على المدينة، بدأوا في الاقتصاص من المسيحيين، بدءًا من النساء والأطفال المتعلمين. حتى عام 2014، كانت المدينة مركزًا تاريخيًا للمسيحية النسّطورية ومقبرة العديد من أنبياء العهد القديم. وهكذا، في تموز/يوليو 2014 دمر إرهابيو (داعش) قبر “النبي يونس”، الذي كان قد بُني بالقرب منه مسجد وكنيسة، يُقدسهما المسلمون والمسيحيون على حدٍ سواء. ويُعتقد أن عُمر الموصل يزيد عن 2700 عام، لكن علماء الآثار عثروا على أنقاض مستّوطنات يعود تاريخها إلى الألفية السادسة قبل الميلاد.
ونهب المسلحون متحف المدينة، الذي كان يُعتبر ثاني أكبر متحف في العراق من حيث مجموعاته. وكان يضم مجموعة شهيرة من الآثار الآشورية والبارثية. وسُرق جزء كبير من المعروضات بغرض البيع. ويعود تاريخ بعض القطع الأثرية إلى الحضارة السومرية في الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وأثناء تدميرهم لمعروضات المتحف، زعم المسلحون أن هذه القطع تُخالف الشريعة الإسلامية، “لأنها تُشجع على عبادة الأصنام”. وبين حزيران/يونيو 2014 وشباط/فبراير 2015، دمّر مسلحو (داعش) 28 مبنى دينيًا في المدينة، تابعًا لديانات مختلفة. وفي شباط/فبراير 2015، نُهبت ودُمّرت مكتبة الموصل (التي بُنيت عام 1921)، والتي كانت الأكبر بين مثيلاتها في البلاد. كانت تحتوي على 112.709 كتب ومخطوطات، بينها العديد من المخطوطات الإسلامية من العصور الوسطى. كما عثروا على مجموعات من الصحف العراقية التي تعود إلى أوائل القرن العشرين، وخرائط وكتب، ومجموعات من الدولة العثمانية، بعضها مُدرج في قائمة (اليونسكو) للآثار النادرة.
كما دُمّرت نِينوى (نَينوى الحديثة) وهي إحدى العواصم الآشورية، التي لا يزال اسمها رمزًا لعظمة وسقوط حضارة عريقة، على يد مسلحين سعوا إلى “التنقيب غير المشروع عن الآثار” بحثًا عن كنوز “الملك أسرحدون” الأسطورية (القرن السابع قبل الميلاد).
وأولى الجهاديون اهتمامًا خاصًا للمجمعات الأثرية التي عمل فيها علماء الآثار لعقود قبلهم، في محاولة لإعادة إحياء تاريخ نشأة الحضارة في بلاد ما بين النهرين. نُفّذ التدمير بوضوح وفقًا لخطة: من أوائل المدن التي دُمرت (5 آذار/مارس 2015) مدينة “نمرود” (30 كيلومترًا من الموصل)، التي أسسها “شلمنصّر الأول” في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وفي القرن السابع عشر قبل الميلاد، أصبحت “نمرود” عاصمة “آشور”.
خلال أعمال التنقيب التي أُجريت عام 1955 في معبد “نابو”، عُثر على ألواح طينية عليها كتابات مسّمارية، تحتوي على قَسَمٍ للأتباع والوجهاء الآشوريين، يعود تاريخها إلى عام 672 قبل الميلاد. وقد شّكلت هذه السجلات عونًا هامًا لدراسة القانون والدين الآشوريين. ووفقًا للخبراء، فُقدت هذه السجلات إلى الأبد. ووصفت “إيرينا بوكوفا”، المديرة العامة لليونسكو (2009-2017)، تدمير “نمرود” بأنه جريمة حرب.
في 7 آذار/مارس 2015، تعرضت مدينة “الحضر” (180 كم شمال غرب بغداد)، وهي مدينة بارثية حافظت على العمارة الهلنستية والرومانية القديمة حتى يومنا هذا، لتدمير وحشي. كانت القبائل العربية البدوية موجودة هنا منذ النصف الثاني من الألفية الأولى قبل الميلاد. ويُترجم اسم مدينة “الحضر” من الآرامية إلى “حظيرة”.
في 8 آذار/مارس 2015، دمر مسلحو (داعش) أطلال العاصمة القديمة لـ”آشور”، مدينة “دور شَرّوكين” (15 كم من الموصل)، التي بُنيت بين 713 و707 قبل الميلاد. وكان قد عاد الملك الآشوري “سرجون الثاني” سريعًا إلى “دور شروكين”، التي كانت تُبنى وفقًا لتصميمه، بعد تتويجه في “بابل”.
عمل علماء الآثار الأوروبيون على حفريات هذه المدن لسنوات عديدة. وأُدرجت الآثار التي اكتشفوها في قائمة (اليونسكو) للتراث العالمي. في آيار/مايو 2015، وصل المجاهدون إلى “تدمر” أو “بالميرا” السورية (الاسم العربي – تدمر)، أغنى مدينة في أواخر العصور القديمة (القرنين الثالث والسادس الميلاديين)، وهي التي شهدت هندستها المعمارية على امتزاج التقنيات اليونانية الرومانية مع التقاليد المحلية. وقد اعترفت (اليونسكو) بالمدينة كموقع للتراث العالمي.
ووفقًا لـ”جاستن ماروزي”؛ (مؤلف كتاب “الإمبراطوريات الإسلامية: 15 مدينة حددت معالم الحضارة”)، “مواقع مثل تدمر… جزء من حضارتنا العالمية، وتمثل معالم بارزة في تاريخ البشرية. وأي ضرر يلحق بها يُعد صدمة للبشرية جمعاء”.
فجّر مسلحو (داعش) معبد “بعل شمين” (كلمة آرامية تعني “سيد السماوات”)، ومعبد “بل”، والأبراج الجنائزية الثلاثة الأفضل حفظًا، ثم فجّروا “قوس النصر” الذي يعود إلى العصر الروماني. وأعدم المسلحون أمين “تدمر”، عالم الآثار السوري البارز؛ “خالد الأسعد”، البالغ من العمر 82 عامًا.
وبعد استيلائهم على “تدمر” للمرة الثانية (كانون أول/ديسمبر 2016)، دمّر المسلحون آخر مبنى أثري متبقٍ – المدرج الروماني القديم. وفي ماري، وهي دولة مدينة كانت قائمة على ضفاف نهر الفرات في سورية خلال الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد، حدث اكتشاف هام، إذ عُثر على حوالي 25 ألف لوح طيني عليها نقوش باللغة الأكادية، مما ألقى الضوء على الهيكل الإداري والاقتصادي والقضائي للإمبراطورية الأكادية (أعوام 2316-2137 قبل الميلاد).
وينص أحد النصوص القديمة على أن “ماري” هي المدينة العاشرة التي تأسست بعد الطوفان. منذ عام 1933، شهدت المنطقة هنا تنقيبًا مستمرًا، معظمه من قِبل علماء آثار فرنسيين، فاكتشفوا أن تصميم المدينة الدائري الشكل والممركز وفر حماية مزدوجة – من هجمات العدو ومن الفيضانات.
في أنقاض “ماري”، اكتشف علماء الآثار نماذج لتقنيات سومرية قديمة، بينها العجلة (الدولاب) والقنوات المائية ونظام الصرف. كما عثر علماء الآثار على ألواح خزفية عليها نصوص في مبانٍ سكنية، تُشير إلى مستوى تعليم سكان المدينة. ووفقًا للمؤرخة الإيطالية “كيارا ديزي بارديسكي”: “بعد 40 حملة، تم التنقيب عن حوالي 15% من الموقع (8 هكتارات من أصل 110 هكتارات)”.
وتتجلى الآن آثار نهب (داعش) الجهادي في صور الأقمار الصناعية التي تُظهر ما يُسمى بمشهد الفوهات – وهي آبار عديدة حُفرت حول منطقة التنقيب.
وقد لاقت “دورا أوروبوس” (القلعة، بالآرامية) المصير نفسه، وهي واحدة من أكثر المدن القديمة إثارة للاهتمام في سورية. اكتشف علماء الآثار هنا أقدم المعابد اليهودية (خارج دولة إسرائيل)، بالإضافة إلى كنائس مزينة باللوحات الجدارية. في شباط/فبراير 2014، أرسل (داعش) 300 مسلح إلى هنا، وفقًا للخبراء، قاموا بنقب ونهب آثار أكثر من 70% من المدينة.
وقد ركزت (داعش) جهودها على مدينة “أفاميا” في شمال سورية على نهر العاصي. أسسها “أنطيوخس سوتر”، ملك الإمبراطورية السلوقية (281-261 قبل الميلاد)، وسُمّيت تيمنًا بوالدته “أفاميا”. في القرنين السادس والسابع، كانت من أكبر مدن الشرق. واليوم، تُغطى المنطقة المحيطة بالآثار القديمة بعشرات الحفر التي عمل فيها حفارون استأجرهم المسلحون.
صودرت فسيفساء رومانية من المتحف. ولم يرحم المسلحون العاصمة الثانية لسورية، مدينة “حلب”، التي نالت عام 2001 لقب “عاصمة الثقافة الإسلامية” في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي، على الرغم من أن “بغداد” و”القاهرة” كانتا منافستيها. بالإضافة إلى ذلك، أُدرجت “حلب” في قائمة (اليونسكو) للتراث العالمي. وقد فشل مسلحو (داعش) في الاستيلاء على المدينة بالكامل. بقي الجزء الغربي منها، حيث بقي 1.5 مليون نسمة، تحت سيطرة الميليشيا المحلية، التي انضمت إليها العديد من الجماعات المسلحة الموالية للحكومة؛ (معظمها ميليشيات شيعية من لبنان والعراق وأفغانستان، بالإضافة إلى الأرمن من مختلف البلدان).
وتُعرف “حلب” بأنها واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان بشكلٍ مستمر في العالم. تحتوي على عدد كبير من المعالم التاريخية: القلاع التي تعود إلى العصور الوسطى والبازارات والمساجد والمدارس الدينية.
خلال القتال، تضرر أكبر وأقدم مسجد في المدينة، “جامع حلب الكبير”. وتعرض جزء كبير من سوق المدينة المسقوف الشهير (يبلغ طوله 13 كم) لأضرار بالغة. وقد بُني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكان أحد المراكز التجارية الرئيسة على “طريق الحرير”.
وفي جنوب سورية، وتحديدًا في محافظة “درعا”، وتحديدًا في مدينة “بصرى” القديمة، دُمّرَ أكبر مدرّج أثري في الشرق الأوسط، وكان يُستخدم في زمن السلم لمهرجانات الموسيقى الشعبية، كما دُمّرت الكنائس المسيحية القديمة.
وتُعدّ مدينة “الرقة” السورية من أقدم مدن الشرق الأوسط، إذ تأسست عام 244 قبل الميلاد، وتضم العديد من المعالم التاريخية: قصر البنات (القرن الثاني عشر)، والجامع الكبير (القرن الثامن). في عام 796، اتخذها الخليفة “هارون الرشيد” مقرًا له.
وفي عام 2013، أُعلنت “الرقة” عاصمةً لتنظيم (داعش). وقد ساهمت “الولايات المتحدة” في تدمير “الرقة”، حيث قصفت وحدة (تالون أنفيل-Talon Anvil) المدينة من 6 حزيران/يونيو إلى 17 تشرين أول/أكتوبر 2017.
وهي اليوم تُسمى “دريسدن” السورية، حيث تضررت أو دُمرت 70% من مبانيها. وعندما تحررت المدينة من الجهاديين (تشرين أول/أكتوبر 2019)، اتضح أن أكثر من 4500 قطعة أثرية قد سُرقت من متحفها الغني، بما في ذلك مجموعة كبيرة من الألواح الطينية ذات الكتابة المسَّمارية التي تعود إلى أواخر القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد، والتي جُمعت خلال أعمال التنقيب في “تل سبع أبيض” التي قام بها علماء آثار من “لايدن” (هولندا).
تُجدر الإشارة إلى أن حتى المتاحف السورية الصغيرة كانت تحتوي على مجموعات من القطع الأثرية القيّمة. وقد أشار “كورّادو كاتيسي-Corrado Catesi”، رئيس وحدة (الإنتربول) لمكافحة الاتجار بالفنون، إلى أن: “المتحف الوحيد في إدلب كان يحتوي على 9494 قطعة ثقافية لا تُقدر بثمن سُرقت في آذار/مارس 2015”.